الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنعَم علينا بالإسلام، وبعَث إلينا نبيَّه خير الأنام، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صاحب الخُلُق العظيم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ: إنَّ من عظيمِ فضلِ الله -تعالى-، أَنْ جعَل الدعاءَ، من أفضلِ العبادات نفعًا، وأعظمها أثرًا، فأمَر عبادَه بدعائِه، ووعدَهم بإجابته؛ فضلًا منه وكرمًا، ومنَّةً وجودًا؛ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غَافِرٍ: 60]؛ فدعاء الوالدين له أثرٌ كبيرٌ في صلاح الأبناء والبنات، وهو أحد ثلاث دعوات مستجابات، ففي سنن ابن ماجه، قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ"، ودعاء الآباء للأبناء، منهج الرسل والأنبياء؛ فهذا خليلُ ربِّ العالمينَ، يسأل ربَّه الولدَ الصالحَ فيقول: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصَّافَّاتِ: 100]، فيأتيه الجواب: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)[الصَّافَّاتِ: 101]، وبعدَ أن رُزق بالولد الصالح، وأَخْذه بأسباب حسن التربية والإصلاح، لم ينقطع دعاؤُه لأبنائه، فقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إِبْرَاهِيمَ: 35]، وقال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إِبْرَاهِيمَ: 40].
ومن شفقة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، على ذريتهما قالا: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 129]؛ فاستجاب اللهُ دعاءهما، فكان من ذريتهما سيد الأولين والآخِرين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "أنا دعوة أبي إبراهيم"(رواه أحمد).
ودعاء الوالدة لولدها، لا شكَّ أنَّه أَحرى بالقَبول وأَوْلَى، فهذه امرأة عمران قالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[آلِ عِمْرَانَ: 35]، فلمَّا وضعَتْها أنثى قالت: (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[آلِ عِمْرَانَ: 36]، فاستجاب اللهُ دعاءها، وبارَك في ابنتها، واصطفاها، وجعَلَها آيةً من آياته الكبرى، فوَهَبَها عيسى -عليه السلام-، وأعاذها وابنَها من الشيطان الرجيم.
ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-، كان من هديه، الدعاء لأبنائه وأحفاده، وأبناء أصحابه، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ"(رواه البخاري)، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"، فأصبح ابن عباس -رضي الله عنهما-، حَبْرَ الأُمَّةِ وتُرجُمانَ القُرآنِ، وفي الصحيحين: قَالَتْ أُمُّ أنسٍ -رضي الله عنهما-: يا رَسولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ أنَسٌ، ادْعُ اللَّهَ له، قَالَ: فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ أَنْ قَالَ: "اللَّهُمَّ أكْثِرْ مَالَهُ، ووَلَدَهُ، وبَارِكْ له فِيما أعْطَيْتَهُ"، قال أنس -رضي الله عنه-: "فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالًا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي: أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ البَصْرَةَ، بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ"(رواه البخاري).
وليحذر الوالدان من الدعاء على أولادهم، ولو أغضبوهم؛ ففي صحيح مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ"، فكم من دعوة خرجت من أبٍ أو أمٍّ، على أحد أبنائهم، فوافقَتْ ساعةَ إجابة؛ فلربما كانت سببًا في فساده وهلاكه، نعوذ بالله من مَقتِه وغضبِه، وعليكم بدعاء الصالحين الأخيار، وصفوة عباد الله الأبرار: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الْفُرْقَانِ: 74].
ثم اعلموا معاشرَ المؤمنين، أن الله أمرَكُم بأمرٍ كريمٍ، ابتدأ فيه بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين