استغفار الرسل للمؤمنين، وهو على نوعين:
النوع الأول: عام: ومنه دعوة نوح عليه السلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]. وكذلك دعوة إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
ودعوتهما عليهما السلام يدخل فيها كل مؤمن ومؤمنة إلى أن تقوم الساعة.
النوع الثاني: خاص: ومنه استغفار يوسف عليه السلام لإخوته {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92]. قال القرطبي: (يغفر الله لكم) مستقبل فيه معنى الدعاء، سأل الله أن يستر عليهم ويرحمهم.[تفسير القرطبي 9/258]
وقال ابن عاشور: وأعقب ذلك بأن أعلمهم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة؛ لأنها ساعة توبة، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم.[التحرير والتنوير 13/50].
ومنه أيضا: استغفار يعقوب عليه السلام لبنيه {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 98] فوعدهم بالاستغفار لهم، والأنبياء عليهم السلام يفون بوعودهم. قال عطاء الخراساني رحمه الله تعالى: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ، ألم تر قول يوسف:" لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" وقال يعقوب:"سوف أستغفر لكم ربي".[تفسير القرطبي 9/ 258]
ومنه أيضا: استغفار الكليم لأخيه هارون عليهما السلام {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151] وكذلك استغفاره عليه السلام لقومه لما عبدوا العجل ثم لما قالوا أرنا الله جهرة فقال عليه السلام {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
ومنه أيضا: استغفار عيسى عليه السلام لقومه: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ويحتمل أن هذه الآية لا تتضمن الاستغفار لهم، وإنما هي تفويض أمرهم إلى الله تعالى، قال ابن عاشور: فوض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به؛ لأن المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدة هول ذلك اليوم، وغاية ما عرض به عيسى أنه جوز المغفرة لهم رحمة منه بهم.[7/ 117].
والذي يظهر لي أنها صالحة للتفويض والاستغفار لهم، ويكون استغفارا بأسلوب فيه تأدب مع الله تعالى، وتعظيم له، وإعظام لذنبهم.
أما ما يدل على أنها تصلح تفويضا دون الاستغفار لهم فحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "… ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفَرَبْرِيُّ، ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَبِيصَةَ، قَالَ: " هُمُ المُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [رواه البخاري: 3447، ومسلم: 2860].
وأما ما يدل على أنها صالحة لأن تكون استغفارا لهم حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ، تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا قَالَ: "إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا " [رواه أحمد: 21328].