(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ)، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المُنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهلالجد والتشمير، وسلَّم تسليماً كثيراً أما بعد
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى،واعملوا أنَّ الله خلق الدنيا والآخرة، وخلق هذا الإنسان وابتلاه بينهما، فإنَّ آثر الدنيا على الآخرة باء بغضب الله سبحانه وتعالى وعذابه، وإنَّ آثر الآخرة على الدنيا فإنَّه يكونُ رابحاً بدُنياه وآخرته، والأول خسر دُنياه وآخرته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا والآخرة هما ضرتانإذا ملت إلى إحداهما أغضبت الأخرى"، فلا بد أن يُعادل المسلم بين دنياه وآخرته، فيأخذ من الدنيا ما يُعينه على طاعةِ الله، وعلى الفوزِ في الآخرة، هذا هو المُسلم المُعتدل الذي انتفع من دنُياه وآخرته، قال الله سبحانه وتعالى في ما ذكره عنَّ من نصحوا لقارون لمَّا أتاه الله الثروة العظيمة نصحوه: (قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أيَّ: لا تفرح فرحا أشرٍ وبطنٍ وكبر فيما أعطاك الله من هذا المال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) بأنَّ تستعين به على العمل الصالح وطلب الآخرة، أنَّ تُنفق منَّه على المحتاجين والمُعسرين وفي سبيل الله عز وجل؛ فهذا يكون ذخراً لك عند الله سبحانه وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا) لا تحرم نفسك من التمتعِ بما أباح اللهُ من طيبات المأكلِ، والمشاربِ، والملابسِ، والمساكنِ لا تنس نصيبك من الدنيا ولا تحرم نفسك من الدنيا، فإنَّ هذا مذموم ولا تنس نصيبك من الدنيا كما قال الله سبحانه وتعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، فالمسلمُ يتناول من رزقِ الله ممَّا أعطاه الله، ويتصدق، ويُنفق، ويُقدم لآخرته، هذا المطلوب من المسلم مع دُنياه وآخرتهِ، وفي الآثر: "اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غدا"، فالمسلمَ يعتدل بيَّن الدنيا والآخرة لا ينقطع مع إحداهما ويتركَ الأخرى، وأمَّا من شقي في هذه الدنيا، وأعطى نفسُه ما تشتهي من حلالِ وحرام، وفتح لنفسه باب الشهوات، واللهو، والغفلة، تمتع بنصيَّبه من الدنيا ونسي الآخرة، فهذا هو الخاسر: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، وأمَّا من عرف قدر الدنَّيا وعرف قدر الآخرة فأعطى كُلَ واحدةِ قدرها فهذا هو الرابح الذي ربح دنياه وربح آخرته قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) أيَّ لقائه لربه، وحسابه عند الله، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) فلينَّظر المسلم في دنياه وينظر في آخرته، ويعلم أنَّه مخلوق للآخرة، ويعلم أنَّ الدنيا زائلة مهما تزينت، ومهما تزخرفت فإنَّها زائلة عمَّا قريب، وأمَّا الآخرة فإنَّها باقية، فلا يُؤثر الفانية على الباقي هذا ليس بعاقل، إنَّما العاقل من يُؤثر الباقية على الفاني هذا هو العاقل، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "إنَّ الدنيا قد ولات مُدبرة، وإنَّ الآخرة قد جاءت مُقبلة، ولِكلٍ منَّه بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا"، أنت لم تُخلق في هذه الدنيا لتعمرها، وتقتصر على تحصيلها، وتنسى الآخرة، أنت خُلقت لتعمل لآخرتك، وتأخذ من دُنياك لتعمل للآخرتك، تأخذ من دنياك ما تستعين به على طلبِ الآخرة هذا هو المقصود من الدنيا، والدنيا دار فنَّاء، والآخرة دار بقاء وهذا معلوم لكلِ عاقل فضلاً عن المؤمن، فكيف يؤثر الإنسان دار الفناء؟ التي هو زائلة أو هي زائلة عنه قريباً وينسى الأخرة التي هي مقره (ويَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)، فأنت في هذه الدنيا عابر وسائرٌ، ومُسافر، تحملك الليالي والأيام إلى الآخرة، فستعد للآخرة، استعد للقاء الله سبحانه وتعالى، اعمل لدار البقاء، ولا تنقطع مع دار الفناء فتنقطع بك: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ* يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي)، تذكروا يا عباد الله، دنياكم وآخرتكم، ولا تكونوا كالبهائم التي ترتع في هذه الدنيا وتنسى الموت، تنسى الذبح وتنسى الموت لأنَّ البهائم لا لومى عليها؛ لأنَّها خُلقت لغاية وهي نفع العباد وتنتهي وليست لها جنَّة ولا نار إنَّما خُلقت لغاية وفائدة حصلت منها ثم تنتهي، إلا أنَّها تُبعث يوم القيامة وتُحشر: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)، ليُقتص لبعضها من بعض، تُحشر يوم القيامة ليُتقتص لبعضها من بعض، يُقتص لشاة الجلحاء من الشاة القرناء ثم يقول الله جلَّ وعلا لها كوني ترابا فعند ذلك: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا).
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا دنياكم وآخرتكم، إنَّ الدنيا الآن قد ازدهرت بحضارتها، ورونقيها أغرت كثيراً من النَّاس، وانَّخدعوا بها، وانَّشغلوا بها، نسوا آخرتهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) فلا تكونوا مثلهم، لا تكونوا مثلهم، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، وما يموت عليه الإنسان قد يعمل الإنسان الأعمال الصالحة ثم يُختم له بالسوء فيموت على الكفر فيكونُ من أهلِ النَّار، وقد يعمل الإنسان بالأعمال السيئة فيُختم له بالخاتمة الحسنةَ فيكونُ من أهل الجنَّة قال الله جلَّ وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيانِ والذكرِ الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.