نعكف منذ سنوات في شبكة حكايا على إعادة الاعتبار للقصة في التعلّم والفن والحياة، وكنا نركز على القصة المحكية (الشخصية والجمعية والتراثية والمعاصرة بكافة أشكالها) لقناعة لدينا بأن فن الحكي والتركيز على "قصصنا" من شأنه ان يساعدنا على استعادة النسيج المجتعي في مجتمعاتنا وبلداننا مما يشكل خطوة أساسية في النمو الصحي لنا كأفراد ومجتمعات. وفي معرض التأمل في العلاقة بين القرائية والشفاهية، خاصة في ضوء التركيز الكبير في السنوات الخمسين الأخيرة على أهمية القراءة ومحو الأمية، وجدنا ان التركيز على الحكي له اهمية كبرى إضافية تتمثل في ضمان التوازن النفسي والمجتمعي بين سطوة الكلمة المكتوبة من جهة وفاعلية الكلمة المحكية من جهة أخرى.
وهنا نذكّر بتقديم منير فاشه في لقاء الطاولة المستديرة حول "المجتمعات الشفهية" والذي عقد خلال مهرجان حكايا الثاني (2009):
يمكن أن نوفّر لأطفالنا مختلف المواد والأجهزة العصرية (من تلفزيون وكمبيوتر وموبايل وإنترنت ومناهج وكتب ومواد من كل الأنواع) ولكن جميعها سيقع على أرض صخرية غير قادرة على توليد الحياة إذا لم يكن التفاعل الشفهي أساس العلاقة اليومية معهم، إذ يفتقرون عندها إلى الغذاء الرئيسي لنموهم الاجتماعي والفكري والثقافي واللغوي والروحي، وهو نموّ يختلف جذريا عن النمو المبرمج الذي تشرف عليه مؤسسات ومهنيون وينتج عن مواد جاهزة للاستهلاك. يشكل التفاعل الشفهي منبع المعاني والحيوية والنسيج الاجتماعي. كثيرون يتباهون بمهارة أطفالهم في استعمال الكمبيوتر مثلا بينما نادرا ما نسمع أحدا يحتفي بأن التفاعل الرئيسي في عائلته هو تفاعل شفهي. هذه ليست دعوة لإلغاء المواد الجاهزة وإنما دعوة لحماية المجتمعات الشفهية على أنها من أهم الأولويات في العصر الحاضر.
وقد يكون أغلى ما يمكن أن يملكه مجتمع هو حيويةٌ نابعةٌ من داخل الأشخاص، ونسيجٌ يُجدل باستمرار فيما بينهم (نسيج اجتماعي فكري ثقافي اقتصادي روحي). وربما يكون التفاعل الشفهي أكثر العوامل التي يمكن أن تخلق مثل هذه الحيوية وتجدل مثل هذا النسيج. ومن بين أهم أشكال التفاعل الشفهي هو القصص والحكايا. لذا، ضروري أن لاتؤدي الدعوة لمحو الأمية والتعليم للجميع إلى محو المجتمعات الشفهية وإلى تكوين عقول تفهم الحياة فقط من خلال نصوص وشاشات. فالحياة أغنى بكثير مما تستطيع اللغة التعبير عنه وما يستطيع العقل فهمه وإدراكه.
من هنا أيضا، ربما يكون الحكواتيون أغلى ما يملكه مجتمع بالنسبة لتربية الأطفال ونموهم اللغوي والتعبيري والفكري والاجتماعي والثقافي والروحي والتخيلي – بدءاً بالجدة والجد ومرورا بمختلف أنواع الحكواتيين وبوجه خاص الذين يجسدون في حياتهم تاريخ وثقافة الناس ويولدونها يوميا. من هنا، فإن التركيز على أن الكتابة والقراءة هما أفضل من الشفاهة بشكل مطلق ربما يكون أسوأ ما فعلته الحضارة الحديثة وأكثره تدميرا لروح المجتمع ونسيجه. فمثل هذا الاعتقاد أخطر أنواع العنصرية، لأنها موجهة ضد فئات تكوّن منبع الفهم والمعاني المرتبطة بالحياة، ولأنها مخفية لا يعيها المصاب بها (إذ تنبع عادة من نية حسنة)، ولأنها ترى الأمور من منطلق مسار أحادي عالمي للتقدم. هذه جميعا تعمينا عن رؤية الغنى والتنوع والحكمة والمعارف لدى الأميين والشفهيين.