| 
			
			
			
			
			
			
		
			
				
				
				
			
	
	 | 
	
	
	
		
		
			
			
				 
				
			 
			 
			
		
		
		
		الفصل السابع  
زيارات المذلة  
 
تناولت الفطور مع السيد بامبلتشوك عند الساعة الثامنة في الرواق خلف دكانه , وعند العاشرة , توجهنا إلى بيت الآنسة هافيشام ووصلناه بعد ربع ساعة . كان منزلاً قرميدياً كئيباً , فيه الكثير من القضبان الحديدية , وقد سُدّت بعض النوافذ , أما النوافذ الباقية , فقد أحاطت القضبان الصدئة بالمنخفض منها . وكانت هناك ساحة أمامية مسيجة , فكان علينا الإنتظار بعد قرع الجرس ليأتي من يفتح لنا . وفيما كنا ننتظر أمام البوابة , استرقت النظر ورأيت أن إلى جانب المنزل مصنع كبير للجعة . 
فُتحت نافذة ونادى أحدهم بصوت واضح يسأل : " ما الاسم ؟ " 
أجاب دليلي : " بامبلتشوك . " 
فقال الصوت : " بالتمام ؟ " 
أُغلقت النافذة ثانية , وجاءت صبية عبر الساحة تحمل مفتاحاً بيدها . فقال بامبلتشوك : " هذا هو بيب . "  
رددت الصبية بالقول : " هذا هو بيب , أليس كذلك ؟ " 
كان السيد بامبلتشوك يدخل البوابة عندما اعترضته بالبوابة وقالت : " هل تريد أن تقابل الآنسة هافيشام ؟ " 
أجاب بامبلتشوك : " إذا كانت الآنسة هافيشام تريد مقابلتي . " 
قالت الفتاة : " آه , لكنك ترى أنها لا ترغب في ذلك . " 
قالتها بحزم , حتى أن السيد بامبلتشوك لم يتسنى له الاحتجاج . لكنه رماني بنظرة حادة - وكأنني اقترفت شيئاً بحقه - ثم رحل وهو يقول : " أيها الفتى ! ليكن مسلكك مفخرة لمن أنشؤوك على أيديهم . "  
أقفلت الصبية البوابة , وذهبنا عبر الساحة . كانت مرصوفة ونظيفة , لكن العشب كان ينمو بين الحجارة . أما أبنية مصنع الجعة فقد كانت مشرعة , وجميعها خالية ومهملة . 
رأتني أنظر إلى المصنع , فقالت : " بإمكانك أن تشرب جميع أنواع الجعة التي تصنع هناك دون أن يصيبك ضرر أيها الفتى . " 
قلت بشيء من الحياء : " أظن باستطاعتي ذلك سيدتي . " 
" يفضل ألا تخمّر الجعة هناك الآن , وإلا فسدت , ألا تعتقد ذلك أيها الفتى ؟ " 
" يبدو الأمر كذلك سيدتي . " 
أضافت تقول : " ليس بمعنى أن يحق لأي إنسان المحاولة . فقد توقف كل ذلك , وسيبقى المصنع متوقفاً كما هو الآن , إلى أن ينهار . أما بالنسبة للجعة المركزة , فهناك منها في الأقبية ما يكفي لإغراق المزرعة . " 
" هل هذا هو اسم المنزل سيدتي ؟ " 
" أحد أسمائه أيها الفتى . " 
وهل له أكثر من اسم سيدتي ؟ " 
" اسم آخر . إنه ساتيس , وهو يعني باليونانية أو اللاتينية كافٍ . " 
فقلت : " بيت كافٍ ! اسم غريب سيدتي . " 
أجابت : " أجل , لكنه يعني أكثر مما يبدو . يعني أنه متى يتم تركه , فالذي يملكه بلن يحتاج لشيء آخر . لابد أنه كان يسهل إرضاؤهم في تلك الأيام على ما أعتقد , لكن لا تتلكأ أيها الفتى . " 
رغم أنها كانت تدعوني (( فتى )) , مراراً ودون أي اكتراث , فقد كانت في مثل سني تقريباً . بدت أكبر مني بكثير طبعاً كونها فتاة جميلة تفاخر بنفسها . كانت تهزأ بي وكأنها في الواحدة والعشرين من عمرها , وكأنها ملكة . 
دخلنا المنزل من باب جانبي , وأول ما لاحظته هو أن جميع الممرات مظلمة , وأنها تركت شمعة مضاءةً هناك . فتناولتْها وسارت في المزيد من الممرات ثم صعدنا درجاً كان بدوره شديد الظلمة , ولم تنر طريقنا سوى تلك الشمعة . في نهاية المطاف وصلنا باب غرفة , فقالت : " أدخل . " 
ثم رحلت والشمعة معها .  
أزعجني ذلك كثيراً وانتابني شيء من الخوف . لكنني قرعت الباب , فأوعز إلي صوت من الغرفة بأن أدخل . دخلت ووجدت نفسي في غرفة فسيحة تفيض بأنوار الشموع . لم يكن فيها أثر لضوء النهار . كانت هناك طاولة أنيقة للتجميل , وفي كرسي وثين تجلس أغرب امرأة رأيتها أو يمكن أن أراها في حياتي , وقد أراحت بكوعها وأناخت برأسها على تلك اليد . 
كانت ترتدي ثياباً فاخرة كلها بيضاء , وكان حذاءها أبيض اللون , ويتدلى على شعرها غطاء طويل أبيض , وقد غرست في شعرها أزهاراً عرائسية , لكن شعرها كان أبيضاً . كانت بعض الجواهر المتلألئة تلمع حول عنقها ويديها , فيما كانت بعض الجواهر الأخرى تتلألأ على الطاولة . لم تكن قد انتهت من اللبس بعد , إذ لم تكن في قدمها سوى فردة حذاء واحد ـ فالأخرى كانت على الطاولة قرب يدها ـ ولم ترتد سلسلتها وساعتها بعد . 
كل شيء حولي , مما يفترض أن يكون أبيض اللون , كان أبيضاً منذ زمن بعيد . وقد فقد بهجته , فبُهت واصفر لونه . العروس في ثوب العرس كانت ذابلة كثوبها , ولم يبق فيها بريق سوى بريق عينيها الغائرتين . كانت كتمثال شمع أو هيكل عظمي شاحب . نظرت إلي , وكنت سأصرخ لو استطعت ذلك .  
قالت : " من هناك ؟ " 
" بيب , سيدتي . " 
" بيب ؟ " 
" صبي السيد بامبلتشوك , سيدتي . جئت ـ لألعب . " 
" اقترب , دعني أنظر إليك . اقترب أكثر . " 
عندمل وقفت أمامها متجنباً نظراتها , لاحظت الأشياء المجاورة بالتفصيل , فوجدت أن ساعتها متوقفة عند التاسعة إلا ثلثاً . وأن ساعة الحائط كذلك متوقفة عند التاسعة إلا ثلثاً . 
قالت الآنسة هافيشام : " انظر إلي , هل تخاف من امرأة لم تر الشمس منذ ولادتها ؟ " 
أجيتها قائلاً : " كلا . " لكنها كانت كذبة . 
" هل تعرف ما ألمس هنا ؟ " 
" أجل , سيدتي . " 
" ماذا ألمس ؟ " 
" قلبك . " 
" محطم . " 
" نطقت الكلمة بنظرة شوق , ونبرة حازمة , وابتسامة غريبة بها شيء من المباهاة. 
قالت الآنسة هافيشام : " إني متعبة وأريد شيئاً يسليني . لقد سئمت الرجال والنساء . إلعب . لدي هوى عليل في أن أرى البعض يلعب , هيا , هيا . " 
وأشارت بأصابعها بتبرّم : " العب , العب . " 
وقفت أنظر إلى الآنسة هافيشام في موقف أعتقد أنها اعتبرته أسلوباً معانداً . فقالت : " هل أنت حرون وعنيد ؟ " 
" كلا , إني في غاية الأسف تجاهك , وآسف كثيراً لأنني لا أستطيع اللعب الآن . إن تذمّرت مني , سأقع في مشكلة مع شقيقتي . لذا سأفعل ذلك إن استطعت . لكن المكان هنا غير مألوف وغريب جداً . كما أنه في غاية الرهافة والكآبة . " 
فتمتمت قائلة : " جديد للغاية بالنسبة له , وقديم للغاية بالنسبة لي . غريب جداً بالنسبة له , ومألوف جداً بالنسبة لي . وحزين للغاية بالنسبة لكلينا ! نادي على استيلا , نادي على استيلا عند الباب . " 
فعلت ذلك , وعندما أتت هذه أشارت لها الآنسة هافيشام بأن تقترب . فتناولت جوهرة من على الطاولة لتجربها على صدرها الفتيّ الجميل قبالة شعرها البني اللطيف . 
" ستكون لك ذات يوم يا عزيزتي , وستستخدمينها جيداً . دعيني أراك تلعبين الورق مع هذا الفتى . " 
" مع هذا الفتى ! كيف ذلك , إنه فتى عامل عاميّ . " 
أظن أنني سمعت جواب الآنسة هافيشام ـ لكنه بدا مقيتاً ـ " ماذا ؟ يمكنك تحطيم فؤاده ! " 
فسألتني استيلا بازدراء بالغ : " ماذا تلعب أيها الفتى ؟ " 
لا شيء سوى لعبة المتسوّل يا سيدتي . " 
قالت الآنسة هافيشام لاستيلا : " افقريه . " 
وهكذا جلسنا للعب الورق . 
وفيما كانت استيلا توزع الورق , أومأت بنظرة ثانية إلى طاولة التجميل ورأيت أن الحذاء الذي عليها بات أصفر اللون بعد أن كان أبيضاً فيما مضى , ولم يرتده أحد . نظرت إلى القدم التي كانت بدون حذاء , فرأيت أن الجورب الذي يغطيها بات أصفر اللون بعد أن كان أبيضاً , فيما مضى وأصبح مهترئاً من كثرة الاستهلاك . قالت استيلا بازدراء قبل أن تنتهي من الدور الأول : " إنه يسمي ورقة الجندي شب , هذا الفتى ! تباً ليديه الخشنتين وحذاءه الغليظ ! " 
لم يخطر لي أبداً أن أخجل من يدي من قبل ؛ لكنني بدأت أعتبرهما يدين كريهتين . كان احتقارها شديداً لدرجة أنه كان معدياً فاتقطته . 
فازت بالدور , فقمت بتوزيع الورق . أخفقت في التوزيع , وكان ذلك طبيعياً , لعلمي أنها كانت تتربص لإخفاقي ودعتني بالفتى العامل الأحمق المرتبك .  
توجهت إلى الآنسة هافيشام بالقول فيما كانت تراقبنا : " لم تقل عنها شيء , إنها تقول عنك أشياء جارحة , لكنك لا تقول عنها شيئاً . فما هو رأيك فيها ؟ " 
فقلت متلعثماً : " لا أرغب في القول . " 
قالت الآنسة هافيشام وهي تنحني : " اهمس في أذني . " 
فأجبت هامساً " أعتقد أنها مغرورة . ط 
" هل من مزيد ؟ " 
" أعتقد أنها قاسية في التحقير . " 
" هل من مزيد ؟ " 
" أظن أنني أرغب بالعودة إلى البيت . " 
" وأن لا تراها ثانية , رغم جمالها الفائق ؟ " 
" لست متأكداً من أنني لا أريد رؤيتها ثانية , لكنني أود أن أعود للبيت الآن . " 
ثم قالت الآنسة هافيشام بصوت مرتفع : " ستذهب بعد قليل , والآن أكمل اللعب . " 
أكملت اللعب مع استيلا فهزمتني.ألقت بالورق على الطاولة بعدما فازت بها جميعاً, وكأنها تحتقر الورق بعدما كسبته مني . وتساءلت الآنسة هافيشام : " متى ستأتي ثانية ؟ دعني أفكر . عُد بعد ستة أيام . استيلا , خذيه إلى الطابق السفلي وقدمي له شيئاً يأكله . اذهب يا بيب . " 
نزلت استيلا أمامي إلى الطابق الأسفل وهي تحمل شمعة , وحين فتحت البوابة الجانبية , أزعجني ضوء النهار المتوهج . فقالت : " انتظر هنا أيها الفتى . " ثم توارت وأغلقت الباب , وفيما أنا لوحدي في الساحة , نظرت إلى يدي الخشنتين وإلى حذائي الغليظ . لم يسبق أن تسببا بالإزعاج لي فيما مضى , لكنهما باتا مصدر إزعاج الآن . تمنيت لو أن جو نشأ على تربية ألطف , فأنشأ حين ذاك مثله . 
عادت الفتاة بشيء من الخبز واللحم وإبريق صغر من الجعة . وضعت الإبريق على الأرض وأعطتني الخبز واللحم دون أن تنظر إلي , بما ينم عن بالغ الازدراء وكأنني كل حقير . شعرت بمذلة شديدة اغرورقت معها الدموع في عينيّ . رمقتني بنظرة فرح لأنها تمكنت من دفعي للبكاء . ثم انصرفت عني . 
حين ذهبت , نظرت حولي أبحث عن مكان أخبئ فيه وجهي . وتواريت خلف أحد بوابات مصنع الجعة ورحت أبكي . في نهاية الأمر مسحت وجهي بكمي وخرجت من خلف البوارة . كان الخبز واللحم مقبولين وأثارت الجعة فيّ بعض الدفء . 
وما لبثت أن جاءت تحمل المفاتيح لكي تفتح الباب. فتحت البوابة ووقفت تمسك بها. كنت أخرج من البوابة دون أن أنظر إليها حين لمستني تسأل : " لماذا لا تبكي ؟ " 
" لأنني لا أريد ذلك . " 
فقالت : " بلى . لقد كنت تبكي حتى غشي بصرك . وإنك الآن على وشك البكاء . " 
ضحكت بازدراء ودفعتني إلى الخارج , ثم أقفلت البوابة خلفي . سرت إلى البيت في غمٍّ شديد وأنا أفكر بكل ما رأيت , وقد أدركت بالفعل أنني مجرد عامل عاميّ . 
 
يتبع ... 
		
  
	
		
				
	
	 |