وانما من أجل الشهادة
أتى بعض اخوانه يعودونه فقرأ وجوههم ثم قال :
لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي ، لا والله ، لن يحرمني ربي الشهادة .
ولقد صدّق الله ظنه فيه , فلم يمت البراء على فراشه ,
بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الاسلام !
وقد كان البراء - رضي الله عنه -
بطلا مقداماً ، لم يتخلف يوما عن غزوة أو مشهد
، وقد كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون البراء قائداً أبدا ،
لأن اقدامه وبحثه عن الشهادة يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة كبيرة ،
وفي يوم اليمامة تجلت بطولته تحت امرة خالد بن الوليد ،
فما أن أعطى القائد الأمر بالزحف ، حتى انطلق البراء والمسلمون يقاتلون
جيش مسيلمة الذي ما كان بالجيش الضعيف ،
بل من أقوى الجيوش وأخطرها ، وعندما سرى في صفوف المسلمين شيء من الجزع ،
نادى القائد ( خالد ) البراء صاحب الصوت الجميل العالي :
تكلم يا براء , فصاح البراء بكلمات قوية عالية :
( يا أهل المدينة ، لا مدينة لكم اليوم ، انما هو الله ، والجنة )
فكانت كلماته تنبيهاً للظلام الذي سيعم لا قدر الله .
وبعد حين عادت المعركة الى نهجها الأول ،
والمسلمون يتقدمون نحو النصر ، واحتمى المشركون بداخل حديقة كبيرة ،
فبردت دماء المسلمون للقتال ، فصعد البراء فوق ربوة وصاح :
( يا معشر المسلمين ، احملوني وألقوني عليهم في الحديقة )
فهو يريد أن يدخل ويفتح الأبواب للمسلمين ولو قتله المشركون
فسينال الشهادة التي يريد ،
ولم ينتظر البراء كثيرا فاعتلى الجدار وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب
واقتحمته جيوش المسلمين ،
ولكن حلم البراء لم يتحقق, فلا سيوف المشركين اغتالته,
ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه .
وصدق أبو بكر رضي الله عنه حين قال :
[ احرص على الموت , توهب لك الحياة ]
ولكن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة ,
أثخنته ببضع وثمانين جراحة ,
حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا يشرف خالد بن الوليد على تمريضه بنفسه .
ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى ..
إلا أن ذلك لم يحمل البراء على اليأس ,
فغداً تجيء معركة .. ومعركة .. ومعركة .
ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة
وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها ..
هناك حيث تقوم امبراطوريتان خرعتان فانيتان , الروم والفرس , تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله , وتستعبدان عباده
ويضرب البراء بسيفه ,ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد
الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق .
وفي احدى الحروب في العراق
لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها ,
فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محماة بالنار ،
يلقونها من حصونهم ، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكاً،
وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين
أمر واحد من تلك الحصون ,
ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة فتعلق به أنس بن مالك ،
ولم يستطع أنس أن يمس السلسلة ليخلص نفسه اذ كانت تتوهج نارا وأبصر
ا\لبراء المشهد ،
فأسرع نحو أخيه الذي تصعد به السلسلة على سطح جدار الحصن ،
وقبض البراء على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قطعها ،
ونجا أنس -رضي الله عنه-
وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما ،
لقد ذهب كل مافيها من لحم ، وبقى هيكلها العظمي مسمرا محترقا ،
وقضى البطل فترة علاج بطيء حتى برىء
أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته ؟!
بلى آن . . !
وهاهي ذي [ موقعة تستر ] تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس
ولتكون لـ البراء عيداً .
احتشد أهل الأهواز والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين ،
وكتب أمير المؤمنين عمر الى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهما -
بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا ، وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة
ليرسل الى الأهواز جيشا, قائلا له في رسالته :
" اجعل امير الجند سهيل بن عديّ , وليكن معه البراء بن مالك "
والتقى الجيشان ليواجهوا جيش الأهواز والفرس ، وبدأت المعركة بالمبارزة ،
فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس ، ثم التحمت الجيوش وراح القتلى
يتساقطون من الطرفين كليهما في كثرة كاثرة .
واقترب بعض الصحابة من البراء ونادوه قائلين :
( أتذكر يا براء قول الرسول عنك " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له ،
لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك " يا براء اقسم على ربك ، ليهزمهم وينصرنا )
ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعياً :
" اللهم امنحنا أكتافهم ، اللهم اهزمهم ، وانصرنا عليهم ، وألحقني اليوم بنبيك "
وألقى على أخيه أنس الذي كان يقاتل قريبا منه نظرة كأنه يودعه ،
وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم .
ونُصِروا نصراً مبينا
ووسط شهداء المعركة ، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة كضوء الفجر ،
وتقبض يمناه على حثية من تراب مضمخة بدمه الطهور ، وسيفه ممدداً الى جواره قويا غير مثلوم .
لقد بلغ المسافر داره..
وأنهى مع إخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم, ونودوا :
(أن تلكم الجنة , أورثتموها بما كنتم تعملون) .