الموضوع
:
محجوب عبيد
عرض مشاركة واحدة
2011-01-07, 11:45 PM
[
14
]
سارب الامل25
عضو فضي
6-
في ذلك اليوم الحزين من صيف عام 1421هـ، الذي وارينا فيه محجوب الثرى، رحت أتجوّل بنظري بين الحشد الذي اجتمع للوداع الأخير في مقبرة النسيم في الرياض، وكما عاش الرجل في هدوء ورقة يتحاشى الأضواء والشهرة، فإنه رحل في هدوء وسكينة ليترك وراءه ينبوعاً من العطاء، وكنزاً من الحب، وثروة من التقدير.
تذكرّت ساعتها مقولة برنارد شو: (العربة الفارغة أكثر جلبة من العربة الممتلئة، وكذلك أدمغة الناس)، ففي زمن يبحث فيه كل من هبّ ودبّ عن الأضواء والشهرة، ويفعلون الأعاجيب والألاعيب ليكونوا (في الصورة)، كان محجوب، بعطائه الأصيل وفكره المتوقد، ينأى بنفسه عن أي مسلك قد يقوده إلى تلك الأضواء، أو يلقي عليه شيئاً من الهالة.
لقد أوجز لي أخي الكريم الدكتور عادل حسيب، وهو الذي درس على محجوب في جامعة الخرطوم ثم زامله قرابة العشرين عاماً في جامعة الملك سعود، أقول...أوجز لي موقف محجوب من الحياة والناس في جملة موفّقة عندما قال: (لقد كان محجوب يريد فقط أن يكون واحداً من الناس له مشاركاته ضمن مشاركات الجميع فلا يميزه عن غيره من الناس شيء، ويرفض بشدّة أن تكون له صورة خاصّة تضع له
قدراً من الأفضلية على غيره من الناس).
كان محجوب أحد الأفذاذ القلائل في العالم العربي القادرين على المزاوجة بين طوفان (الحركة العلمية) المعاصرة وفكرها ودلالاتها، وبين التراث الإسلامي في أصوله الصحيحة، ومناهله النقية، واجتهاداته الأصيلة، لتبرز رؤية (إيمانية – علمية) راقية تتصدّى بعنفوان لتخرّصات الملاحدة، وطغيان المادية، وحذلقة أنصاف العلماء.
لقد رأينا في الأسابيع الماضية كيف كان محجوب يحاكم (المنهج العلمي – التجريبي) من الداخل، ويتصدّى لطروحات منمّقة يطرحها روّاد فـي (العلم الطبيعي) وهم يستغلّون شهرتهم العالمية، وإنجازاتهم العلمية، لإضفاء قناعاتهم الذاتية على (العلم الطبيعي)، ومن ذلك إبراز (الفكر الإلحادي) وكأنه نتيجة تلقائية لمعطيات (الفيزياء) ومبادئها، ومن أمثلة أولئك الفيزيائي البريطاني المشهور (ستيفن هوكنج).
لم يكن محجوب، وهو يقارعهم بالدليل والحجة، غريباً على (المنهج العلمي)، ولم يكن طارئاً على (العلوم الطبيعية)، ولكنه كان ابن بجدتها، وله إسهاماته المميزة في مجال من أكثر مجالاتها صعوبة...وأشدّها تعقيداً، ولذا فإنه كان يتحدّث بطلاقة المتمكّن، واستئناس العارف ببواطن الأمور.
لقد كان – رحمه الله – يتعقّب حججهم واحدة واحدة، وهم يحاولون تأسيسها على مبادئ (الفيزياء) وقوانينها، وكان يدحض افتراءاتهم دحض مفكّر عالم يدرك خفايا اللعبة التي يريدون أن يلعبوها، ويمسك بزمام الآليات التي يريدون أن يستغلّوها.
ولعلّه من المناسب هنا أن أتوقف أمام رؤوس أقلام دفع بها إليّ محجوب بخطّ يده الأنيق لمحاضرة ألقاها في عام 1419 هـ في (كلية العلوم) بجامعة الملك سعود، وهي بعنوان (العلم والدين).
يبدأ محجوب محاضرته بطرح السؤال: (ما هو العلم وما هو الدين؟)، ويجيب فيقول: (جوهر العلم هو معرفة كيفية حدوث الظواهر، ومهمة العلماء البحث عن القوانين التي تحكم هذه الظواهر وتطوير سبل الاستفادة منها. أمـا جوهر الدين فهو توضيح حقيقة الوجود، ومهمة الرسل تبليغ هذه الرسالة وتقديم تصوّر شامل للوجود ومكان الإنسان فيه. وهكذا فإن العلم مجهود بشري بينما الدين وحي سماوي، وبينهما
تداخل).
وينطلق محجوب ليبرز طبيعة (التداخل) بين (العلم) و(الدين) فيقول: (هناك تداخل مباشر فقد جاء في الوحي آيات عن بعض الظواهر الكونية وخصائص المخلوقات، ويمكن إدراك اتفاقها مع الـمُـشاهَد بوسائل العلم الطبيعي، وهذا تداخل محدود. أما التداخل الأشمل فهو أن العلم جزء من الدين، فالأمر بتأمّل أحوال المخلوقات والتفـكّر في الظواهر الكونية مما جاء به الوحي تكليفاً على بني الإنسان، وهذا يشمل كلّ العلم الطبيعي ولا يستثني منه شيئاً).
ويواصل محجوب طرحه ليبرز (العلم) من منظور (الدين)، فيقول
الاعتقاد بوجود خالق مدبر يقتضي الاعتقاد بأن ما يكشفه العلم من خصائص وقوانين هو كشف عن بعض سنن الله في الخلق، ولا توجد حقائق أو قوانين علمية لا تندرج تحت هذه المظلة).
أمـا (الدين) من منظور (العلم) فإن محجوب يضعه في الإطار التالي: (إن مبحث العلم الطبيعي محدود بحدود بيئة الإنسان مما يوجب تصوّراً شمولياً للوجود يكون أوسع من مدارك العلم، وبالتالي فإن العلم لا يستطيع أن يثبت أو ينفي صحة هذا التصوّر).
استناداً إلى ما سبق فإن محجوب يخلص إلى نتيجة هامة وهي: (أن المؤمن الذي يهاجم العلم يصدر عن جهله وليس عن عقيدته، والعالم الذي يهاجم الدين يصدر عن ظنّـه وليس عن علمه).
ويعرّج محجوب على أحد مزاعم الملاحدة عندما يقابلون العلم بالدين على أساس أن كلاًّ منهما يقصي الآخر، فيقول بعضهم: (ما تعلّمناه من العلم الطبيعي عن هذا العالم خلال القرن الحالي أكثر مما علّمتنا إياه الأديان خلال القرون السابقة، وبالتالي فإن العلم الطبيعي يكفي).
يقول محجوب: (إن ذلك الزعم قد يصحّ عند بعض الناس، ومنهم من استغنى عن العلم والدين معاً، ولكن هذا ليس صحيحاً عند كثير من الناس، وذلك لحالتين واضحتين، وهما متطلّبات الحياة العادية، وإشباع طموح المعرفة العميقة).
فيما يتعلّق بمتطلّبات الحياة فإن: (ثوابت العلم الطبيعي لا تكفي هَدْياً في حياة الناس، فنحن لا نستطيع أن نثبت علمياً أن التضحية في سبيل فكرة عمل مجيد، أو أن ملازمة الأم المريضة سنوات عديدة أفضل من الانصراف عنها).
وأمـا فيما يتعلّق بسبر غور (حقيقة الوجود)، فإن محجوب يوضح أن العلم عاجز، لأن تلك الحقيقة تقع خارج نطاق العلم البشري، ويقول: (هـناك ثلاثة أسئلة أساسـية تهمّ الإنسان، ولا يجيب عليها الـعلم الطبيعي، وأوّل الأسئلة هـو أن العالم الـمُـشاهَد عبارة عن قدر كبير من الطاقة، فمن أين أتت هذه الطاقة؟).
أمـا السؤال الثاني: (تتفاعل الموجودات في العالم المـُشاهَد وفق قوانين محدّدة، تمكّن الإنسان من معرفة العديد منها، فمن أين أتت هذه القوانين؟). وأما السؤال الثالث: (نتيجة هذه التفاعلات بين الموجودات يتطوّر العالم الـمُـشاهَد باضطراد، وتتغير أحواله، فما الغاية التي تستهدفها هذه المسيرة؟).
ويخلص محجوب، بعد طرح تلك الأسئلة التي يقف (العلم) عاجزاً أمامها، إلى أن: (الدين أعطى بسطاء الناس تصوّراً عميقاً للوجود، تفوّقوا به على كافة الملاحدة مهما عظم حظّهم من العلم الطبيعي).
رحم الله محجوب فقد كان مؤهلاً علماً وخلقاً وفكراً وإيماناً لطرح رؤية خصبة تسهم في انتشال الأمة من واقعها الحزين، وتدفع بها نحو مواقع متقدّمة على طريق الإنجاز العلمي، والفكر الناضج، والتأثير الفاعل على (الآخر). ولذا عندما نرثي فقده، ونستشعر غيابه، فإننا ندرك أن مثله في الأمة قليل ونادر، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى سارب الامل25
البحث عن كل مشاركات سارب الامل25