5-
عندما قام أستاذنا الفاضل الدكتور راشد المبارك بتكريم ذكرى محجوب مرتين في أحديته المتألقة في دارته العامرة بالرياض، فإنه كان – جزاه الله خيراً - يسجّل لحظات شموخ واعتزاز، ويضع بصمات وفاء وتقدير لرجل اجتمعت فيه صفات مميزة فهو محجوب (الإنسان)، و(المفكر)، و(العالم).
ولذا استمتع الحضور في الندوتين، من يعرف محجوب منهم ومن لا يعرفه، برحلة ثرية تمحورت حول أبعاد هذا الرجل المتسامقة التي كان كثير منها خافياً، وحتى أولئك الذين أحبوه وزاملوه سنوات طويلة، ومنهم صاحب هذه السطور، اكتشفوا جوانب في شخصية الرجل لم يكن لهم بها علم، فقد كان رحمه الله زاهداً في الأضواء والشهرة واستعراض الذات، ومعنياً فقط بما يقدّمه - في هدوء وتمكّن - على الأصعدة الفكرية والإنسانية والعلمية.
لقد عمل الفيزيائي الفذ والمفكر المرموق البروفسور محجوب عبيد طه في جامعة الملك سعود لما يربو على العشرين عاماً، ولم يتوقف فيها عطاؤه قط حتى في سنواته الأخيرة إبان صراعه مع المرض، فهو قد أحب هذا البلد، وأحب أهل هذا البلد، ولذا لم تغره عروض من أصقاع شتى يسيل لها لعاب الكثيرين، وآثر أن يبقى حيث اختار بقناعة كاملة، مكرّساً حياته للعلم الفيزيائي، والفكر المتألّق، والقدوة الصالحة.
قلنا فيما سبق إن محجوب حرص على إبراز (إنسانية) العلم الطبيعي، وتأثره بقناعات الباحث وعقيدته فيما يضفي عليه من ترجمات لمعطياته، وتأويل لقوانينه بحيث يحسب الناس أن تلك التصورات امتداد حقيقي لموضوعية (العلم الطبيعي) ومنهجه الحيادي.
مثل تلك التأويلات يمكن أن تصبّ في عدّة اتجاهات، وتحمل عدداً كبيراً من
الدلالات، ولذا حرص محجوب - بشكل عام - على التحذير منها، والاهتمام بفحصها فحصاً منضبطاً ومـنطقياً لـيصبح ذلك – فـي نظره – أحـد الأوجـه الضرورية للتعامل الفلسفي والمعالجة الفكرية لنتائج (العلم الطبيعي) ومعطياته.
أمـا القضية الثانية التي اهتم بها محجوب، فهي قضية التصدي للمحاولات المتكررة من قبل بعض العلماء الطبيعيين في الغرب لإضفاء الصبغة الإلحادية على (العلم الطبيعي) في تفسير وجود الكون، وتعليل غاياته.
ذلك الرجل النحيل، الذي كان يقطر أدباً وحياءً وتواضعاً، كان يتحوّل إلى عملاق فكري شامخ وهو يتصدّى لملاحدة هذا الزمن من علماء الطبيعة الذين سبقتهم شهرتهم العلمية ليدسّوا (السم في العسل)، وليغلّفوا رؤاهم الإلحادية بغلاف (العلم الطبيعي)، وهو من ذلك براء.
يقول محجوب – رحمه الله -: ( وبتطوّر مفاهيم العلم الطبيعي ونظرياته، وبعد النجاح الباهر لتطبيقاته التقنية، تغيرت ملامح الحياة الاجتماعية، وتعقّدت العلاقات بين الأجيال، فظهرت الثورات على (المسلّمات)، ومنها المسلّمات في العادات والأخلاق والدين، وجاءت فترة أصبح فيها الإلحاد عند الشباب (تقليعة)...لا ترتكز على علم أو فلسفة أو تأمل. وبمرور الأيام غزا بعض هؤلاء عالم الفكر والعلم الطبيعي، ومنهم من برع فيه واشتهر، ففكّر وقدّر وصوّر للناس أن العلم الطبيعي صنو الإلحاد وداعيته، وأن التمسّك بالعقيدة الإلهية من سمات الجاهلية الذين لا يواكبون تطورات العلم الحديث وفتوحاته).
ويواصل محجوب طرحه فيقول: (نجد اليوم عدداً من ملاحدة علماء الطبيعة قدّموا تصورات لنشأة الكون، وظهور المادة والحياة، يُستفاد منها ظنّهم أن فرضية وجود الله لا تخدم غرضاً مفيداً للإنسان المعاصر، وأن الفكر المبني على العلم الطبيعي ونظرياته يمكن أن يحلّ محلّ الدين في النظر لبدايات الوجود ونهاياته، وفي مقاصد سننه وقوانينه. هؤلاء فئة آمنت بالعلم الطبيعي وبمقدرات الفكر الإنساني، فخرجت به عن نطاقه المحدود، لتهتدي به في المرامي البعيدة بعد أن أعمته بالظن والهوى، فأضلها الله على علم).
ينخرط محجوب في دقة علمية ليفنّد مقولات الملاحدة فيقول: (كلّ من قرأت لهم من العلماء الملحدين دون استثناء يعتقدون أن أساس الإيمان بالله حاجة الناس لتفسير ظواهر لا تفسير لها، ظواهر (أراد) الله حدوثها ولا نعلم لها سبباً سوى ذلك. معنى ذلك أن الأشياء التي تحدث حدوثاً طبيعياً (أي لها ارتباط سبـبي معلوم) لا تتطلّب وجود الله في ظنهم، ويدّعون أننا نقول بأن الله خلق الحياة إذا كنا نجهل تفسيراً علمياً لأصل الحياة، ولكن إذا صحّت لدينا نظرية علمية في أصل الحياة وقبلناها، فقد انتفت الحاجة للقول بأن الله خلق الحياة، وعلى المؤمنين البحث عن ظاهرة أخرى يعلّقون عليها علّة لإيمانهم. مثل هذا الظن السقيم لا يخلو منه كتاب مما وقع في يدي من الكتب المعاصرة عن الفكر المترتّب على العلم الطبيعي وصلته بالعقيدة الدينية (هوكنج، واينبيرج، ديفيز، ديكنز وغيرهم). وهذا أمر غريب لأن العقيدة الإيمانية واضحة وميسورة، وليس من عذر عند هؤلاء المفكرين لخطأهم أو جهلهم بها).
ويوضح محجوب أبعاد تلك (العقيدة الإيمانية) فيقول: ( جوهر العقيدة الإيمانية أن للوجود خالقاً، خلق الزمان والمكان والموجودات، وخلق القوانين التي تتفاعل بها هذه الموجودات، وتتطوّر في الزمان والمكان. كلّ ما يحدث يحدث وفق سننه، ويحقق مقتضى إرادته وتقديره. وما نراه ونحسّه من الموجودات أنما هو الشيء اليسير الذي هيّـأ الخالق لنا إمكانية الوقوف عليه، وفيه دليل على عظمة الخلق والخالق، وعلى بديع صنعه وتقديره فيما لا يمكن أن نحيط به من كلّ صغيرة وكبيرة في هذا الكون الشاسع).
يواصل محجوب تفنيده لحجج الملاحدة فيقول: (الذي يبني على الظن السقيم بأن الظواهر التي تحدث بسبب معلوم لا تتطلّب الاعتقاد بوجود الله يحسب أن الدين هو الإيمان بالخوارق، والواقع أن الدين عكس ذلك تماماً، فالمؤمن يعتقد أن كلّ ما يحدث يحدث بسبب طبيعي، أي وفق سنن الله وتقديره. وكما أن معرفة السبب في الظاهرة البسيطة لا تنفي مشيئة الله وتقديره، فإن مـعرفة السبب في الظاهرة المعقّدة لا تنفيها. لدينا نظرية واضحة في كيفية هطول المطر وهي لم تمنعنا من الاعتقاد بأن الله أنـزله، فلـماذا تمنعنا نـظرية (غير واضحة) في كيفية بدء الحياة من الاعتقاد بأن الله
أنشأها؟).
وهنا يُـبرز محجوب دور (العلم الطبيعي) وحدوده فيقول: (إن معرفة الكيفية التي تحدث بها الظواهر هي كلّ ما نستطيع أن نحصّله من العلم الطبيعي، وهذا ما أمرنا الله به حتى في حالة بداية الخليقة: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير) (العنكبوت: 20). إن معرفة الكيفية هي اكتشاف القانون الطبيعي الذي بموجبه حدث الحدث، أو نشأت الظاهرة، أي التعرّف على سنة الله فيما يتعلّق بهذه الظاهرة، وهذه هي مهمة العلم الطبيعي الأساسي).