الموضوع: محجوب عبيد
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-01-07, 11:43 PM   [12]
سارب الامل25
عضو فضي
 

سارب الامل25 is on a distinguished road
افتراضي

4-
أكـثر من مرة سألت محجوب عبيد طه – رحمه الله- عن السبب الذي جعله

يعزف عن تأليف الكتب يجمع بين دفتيها طروحاته العميقة، ومقالاته الثرية، وسجالاته المنضبطة، ليتلقّفها المهتمون بالفكر المعاصر ودلالاته، والعلاقات المتشابكة بينه وبين فكر الأمة الإسلامية وعقيدتها، ولتسهم تلك المؤلّفات في انتشال مستوى الفكر والثقافة مما هيمن عليه من حالات هزيلة متردّية تجترّ نفسها، وتغوص في استنساخ الذات فلا تقدّم جديداً، ولا تحلّ إشكالاً، ولا تطوّر واقعاً.

وفي كلّ مرة كان يتفادى - بأدب جم - الإجابة على سؤالي الملح حتى إذا ما فاض الكيل انصرف وهو يضرب بيده على كتفي مازحاً بطريقته المميزة وهو يقول: (يـازول!).

كنت أعلم في قرارة نفسي أن أعداء محجوب هم تواضعه المفرط، وزهده الصادق في الشهرة، ومقته الغريزي للأضواء، فكان يتحاشى أيّ مسلك قد يقود إلى تلك الأجواء، وكان يعطي عطاءً متدفقاً في عالم التدريس والبحث والفكر ضمن الضوابط التي وضعها لنفسه، ووفق المعايير التي اختارها لحياته، ليكون كل ذلك خالصاً لوجه الله لا يهدّده شبح رياء، أو يتسلّل إليها طيف شهرة.

ذلك هو محجوب (الإنسان)...أمـا عطاؤه الفكري الأصيل فهو في حاجة إلى من يجمعه وينقحه ويراجعه وينشره ليكون إضافة متميزة على ساحة (الفكر العربي) التي تشحّ فيها – بشكل مدقع - الطروحات العلمية المتميزة، واللمحات النابهة المرتبطة بمعطيات العصر ومتغيراته، وهذا ما حاولت القيام ببعضه مجموعة صغيرة من محبي محجوب، من بين أعضائها صاحب هذه السطور، ولعله من المؤسف أن جهد هذه المجموعة وإمكاناتها لم تسمح لها حتى الآن بتحقيق ما تصبو إليه.

لقد وجدنا في المقالات السابقة أن أحد المسارات الفكرية التي اهتم بها محجوب هـو بلورة الأسـس التي يستند إليها (المنهج العلمي-التجريبي) الذي يميّـز العلوم الطبيعية، وحرصه على توكيد (الجانب الذاتي) للمنهج حيث تتجلّى قناعات الباحث الشخصية، ومنطلقاته الفلسفية والعقدية ضمن (الصورة الموضوعية) التي يتباهى بها (المنهج العلمي).

لم يكن ذلك الاهتمام يكمن فقط في الجانب الفلسفي والفكري للقضية، وهو

جانب مهم، ولكنه أيضاً كان يتأسّس على فهم عميق لطبيعة الاشتباك الحاصل بين (المنهج العلمي) و(العقائد الكونية) و(الممارسات الحياتية)، وكيفية إنزال ذلك الاشتباك، وتشخيص طبيعته، وتمحيص آثاره على التفاعلات الفكرية والعقدية والحياتية للأمة الإسلامية.

لقد كان محجوب – رحمه الله -، من واقع اهتمامه بخصائص وطبيعة هذا المنهج وطريقة صياغة (القوانين الطبيعية)، يتصدّى إلى قضيتين جوهريتين: الأولى: تحديد حقيقة الأثر الذي يحدثه الباحث عبر قناعاته الشخصية، وعقيدته الخاصة، ورؤاه الذاتية، في تناوله للقضايا العلمية التي يعتقد غالبية الناس بأنها تسنّمت قمة (الموضوعية التجريبية) و(المنطق الرياضي)، ولا مكان فيها لتحيزات المتحيزين وتخرّصاتهم.

أمـا القضية الثانية التي حاصرها محجوب وعالجها بعنفوان فهي إبراز (الحيل العلمية) التي يتحايل بها بعض العلماء في الغرب من أصحاب التوجّهات الإلحادية لتكريس عقائدهم الخاصة، وجعْلها تبدو وكأنها جزء لا يتجزأ من (العلم الطبيعي)، ومن أمثال هؤلاء الفيزيائي البريطاني الشهير (ستيفن هوكنج)، والفيزيائي الأسترالي (بول دافيز) وغيرهما.

عند إنزال القضيتين على الواقع الإسلامي، فإنهما يلتقيان - في رأيي- عند مصطلح (أسلمة العلوم الطبيعية)، وهذا مصطلح له مؤيدوه وله معارضوه، وقد لا نستغرب وجود معارضين في ضوء (الانبهار) السائد والقول الشائع عن (حيادية) و(موضوعية) العلوم الطبيعية، إلا أنه قد يصبح من الصعب علينا فهم وجود من يعارض (أسـلمة المـعرفة) في جوانبها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشكلٍ عام.

أقول...تلتقي القضيتان – في رأيي – أمام مصطلح (الأسلمة) لأنني في الواقع، طوال حواراتي الطويلة مع محجوب وقراءتي واستماعي لطروحاته، لم أجده يستخدم مصطلح (الأسلمة)، إلا أننا نجد،عند تحليل فكره واهتماماته العقدية والفلسفية، أنه كان يدفع بشكل حثيث في ذلك الاتجاه عبر تحليل دقيق، وتشخيص منهجي.

كـأني بمحجوب كعادته يربـأ بنفسه عن الدخول في صـراعات كلامية

ومهاترات لا طائل فكري من ورائها، فهو يهتم فقط بالغوص في الجوهر، وإجلاء الحقيقة، وإعمال العقل الناضج في قضايا الفكر العميقة، وكأنه يقول...استنتجوا بعد ذلك ما شئتم من مفردات، وسكّوا ما شئتم من مصطلحات.

يحتجّ بعضهم في معارضته لمبدأ (أسلمة العلوم الطبيعية) بأنّ (العلم محايد ولا وطن له)، ومحجوب لا يتطرّق إلى هذه المقولة الشائعة، ولكنه يغوص في أعماق (الفكر العلمي)، ويقرّر حقائقه، فيقول: (إن الباحث لا يُـقبل على عمله خالياً من الأحاسيس والمحتوى الفكري، وإنما يقبل عليه بطموح وتصوّر وتوقّع في إطار فلسفة عقدية أصبحت من خصائص كيانه وشخصيته).

ولكن ما قولك يا محجوب في حياد وموضوعية (المنهج العلمي)؟، ويأتي الرد سريعاً ليقول: (الحق أن الموضوعية المهنية المطلوبة في البحث العلمي هي موضوعية رصد الحقائق والمشاهدات كما وردت، وليس هناك إلزام مهني بـحصر التأملات والاستنتاجات والعبارات بحيث لا تتعدّى هيكل الحقائق المجردة. ولقد ذكرنا أن مثل هذا الالتزام لا يفيد العلم شيئاً. غير أن الأمر قد يُـبالغ فيه من الطرف الآخر فتُـقدّم نظرة فلسفية مثيرة في إطار لا يحوي علماً مفيداً. في مثل هذه الحالات يستغلّ العالم رصيد سمعته العلمية ليبلّغ رسالة لا تتصل بعلمه وتخصّصه وإن سربلها بسرابيل علمه وتخصصه).

ويطلق محجوب تحذيراً هاماً لكل من يتعامل مع (العلم الطبيعي)، أو يقفز على نتائجه العملية إلى أبعاد فلسفية أو عقدية أو فكرية، فـيقول: (وأخـتم بالتركيز على النقطة الأساسية في هذه المقالة، وهي التأكيد بأن المجهود المبذول نحو تحصيل العلوم الطبيعية، منذ التخطيط الأوّلـي لإجراء التجارب المعملية حتى صياغة القوانين العامة والنظريات الأساسية هو مجهود بشري عليه سمات العاملين عليه، وبصفة خاصة يعكس بوضوح مواقف عقدية وإضافات فكرية وظلالاً فلسفية ليست ضرورية لاستيعابه ورعايته وتطويره. ومن المهم أن يؤخذ هذا في الاعتبار عند الاطلاع على الكتابات العلمية، وعند تدريب الناشئة في مجالات العلوم الطبيعية كافة).

إذا لم تكن تلك دعوة واضحة إلى الاهتمام بأسلمة العلوم الطبيعية، فإنها - على

أقل تقدير - دعوة إلى التصدّي إلى ما يحاول البعض إسباغه على (العلوم الطبيعية) من قناعاتهم الفردية، ومنطلقاتهم العقدية.


سارب الامل25 غير متواجد حالياً    رد مع اقتباس