2-
على مدى حوالي ربع قرن زاملت الفيزيائي الفذ والمفكر المرموق البروفسور محجوب عبيد طه وصادقته وأحببته وتعلّمت منه الكثير على الأصعدة العلمية والفكرية والإنسانية، وكان – رحمه الله – يعطي بهدوء والتزام منقطعي النظير، فكانت إسهاماته المميزة على ساحة (جامعة الملك سعود) مصدر إلهام وتقدير، وكانت جهوده العلمية بين طلابه وزملائه ومريديه قدوة مرموقة ومصدر اعتزاز لدى الجميع، وكانت مشاركاته المتعددة على الساحة الفكرية علامة بارزة من علامات النبوغ والأصالة والتميز.
وعندما لقي محجوب ربه في عام 1421 هـ، جاء غيابه في وقت ترتفع فيه أنات الشكوى من الشح الفادح الذي تعاني منه الأمة العربية والإسلامية فيما يتعلّق بالعقول المتميزة في (العلوم الحديثة) القادرة على الإضافة الجادة، والاستيعاب العميق، والمعالجة الأصيلة، والتفكير المنضبط.
أمـا صفاته الإنسانية فقد كانت تطلّ بشموخ عبر تعاملاته اليومية وعلاقاته عـلى مختلف المستويات، فكانت - بتلقائيتها وعفويتها وتواضعها دون تكلّف أو تصنّع - معلماً بارزاً من شخصية الرجل الذي كان يتسلّل - في محبة ودعة - إلى قلوب كل من يتعامل معهم بغضّ النظر عن خلفياتهم أو أعمارهم أو اهتماماتهم.
حدّثني أخي الكريم الدكتور عبد الله الغذامي، ونحن ننتظر صلاة العصر في مسجد عتيقة بالرياض لنؤدّي بعدها صلاة الجنازة على فقيدنا محجوب – رحمه الله -، فقال: (لم أكن أعرف الرجل تلك المعرفة الوطيدة فمعرفتي به تنحصر في لقاءات عابرة في مسجد سكن الجامعة، ولكنه كان دائماً يترك في النفس قدراً كبيرا من المحبة والتقدير، ولما جاء خبر وفاته إلينا بعد صلاة الظهر في المسجد طفرت الدموع من الأعين، وأجهش البعض بالبكاء، وشعرنا بأننا فقدنا شخصاً عزيزاً علينا جميعاً).
أمـا حجم الفقد، على الأصعدة الفكرية والعلمية والإنسانية، الذي شعر به زملاؤه ومريدوه والمتطلّعون إلى محاضراته وندواته، فإنه ما زال منتصباً ينبض بذكرى غالية وأسىً مقيم، بل لعله يزداد مع الأيام لعدم وجود من يملأ ذلك الفراغ.
أمـا عن طلابه...فحدّث ولا حرج، فإنهم - دون شك - سيذكرون بكل الإعزاز والإجلال انكبابه المميز على مسؤولياته التعليمية، وحرصه على التفاعل الصحيح مع قدراتهم، وبقائه متواصلاً معهم...ومستقبلاً لهم حتى في أقسى اللحظات إبان صراعه مع المرض العضال في سنواته الأخيرة.
وأمـا طلاب الثانوية الذين كانوا يقطنون في سكن الجامعة، فإنهم سيذكرون بكل الحب ذلك الرجل الذي كان يلقاهم مبتسماً ومرحباً ليجيب على استفساراتهم في (الفيزياء)، ومعضلاتهم في (الرياضيات)، ولا شك أن أسلوبه البسيط وطريقته العفوية في تعامله معهم لم تكن لتوحي لهم - على الإطلاق - أنهم يقفون أمام قامة متسامقة في عالم (الفيزياء والرياضيات).
وهكذا كان محجوب (الإنسان) يشعّ المحبة والتقدير في كلّ اتجاه، وكان عبق شخصيته يتجاوز التخصّصات والأعمار والمستويات الذهنية، ولذا فإنه ليس بالإمكان فصل ملامح محجوب (الإنسانية) عن (فكره) و(علمه)، لأن (فكره) تأسّس على (علمه)، واستند الاثنان على عقيدة راسخة، وإيمان عميق، وخلق رفيع.
لقد تطرّقنا إلى اهتمام محجوب بتحديد الأبعاد الحقيقية للمنهج الذي قلب حياة
البشر، وهو (المنهج العلمي – التجريبي)، وبالرغم مما هو شائع عن صرامة (المنهج العلمي) وانضباطه إلا أن من أبرز اهتمامات محجوب الفكرية حرصه على محاكمة (المنهج العلمي) من الداخل، والغوص في بواطنه الفلسفيه، ومستعصياته الإجرائية، ودلالاته الفكرية، وهو بذلك يؤسّس لرؤية منهجية عادلة لا يجنح بها تحيز أو حماس إلى خارج حدودها المنضبطة، ولا يعيقها جهل أو ركود فيقعدان بها عن تحقيق أغراضها وتسامق بنيانها.
عند تأمل بعض أعمال محجوب الفكرية فإنه قد يبدو غريباً – لأول وهلة – ربط مصطلح (العقيدة) بمفاهيم منبثقة عن (المنهج العلمي) ومواصفاته الدقيقة، ولكن الرجل يأخذنا معه في رحلة خصبة عبر التأسيس لذلك الربط لكي يخلص بالتزام وانضباط إلى نتائج حاسمة في النظرة إلى (الكون)، والتعامل مع (الفكر الإنساني).
يقول محجوب في إحدى مقالاته: (العقيدة هي الاعتقاد بصحة مفاهيم مترابطة داخل إطار شامل، وعلى غير ما يظن الكثيرون، فإن العقيدة بهذا المعنى من أساسيات الفكر والحياة، ومما يدخل في ذلك تصوّر الإنسان للخطأ والصواب في أنماط السلوك وتصنيفه للرذيلة والفضيلة، واتخاذ أهداف معنوية معينة للحياة الفردية مثل السعي لتحسين مستوى المعيشة، وتنظيم المجتمع، والاعتقاد بوجوب محاربة (الظلم)، والتضحية من أجل تحقيق (العدالة)، مع تحديد معين لمعنى (الظلم) ومعنى (العدالة).كلّ هذه عقائد، في أطر فكرية وسلوكية، وهي مما يختلف حوله الناس ويذهبون فيه المذاهب، ولم تحسمه تجربة الإنسان على الأرض عبر القرون، وهذه العقائد لا تستقيم بدونها حياة الأفراد ولا حياة الأمم والجماعات، وهي مبادئ تبيّـن ثوابت الالتزام وتفسّر المواقف).
من ذلك التأسيس العام لمفهوم (العقيدة) يوضّح محجوب أن: (العقيدة أساس الدين وأساس العلم التجريبي)، وينطلق ليقول: (الأمر واضح فيما يخصّ الدين، إذْ الأساس فيه الإيمان بوجود الله وبحكمته ووحدانيته، وبأنه خلق الكون والحياة والإنسان، وأوحى للرسل الرسالات السماوية لهداية الناس لعبادته واتباع شرعه. أما أساس العلم التجريبي فهو الاعتقاد بالتناسق المنطقي لسلوك الموجودات، والاعتقاد بوجود قوانين وسنن محدّدة تضبط هذا السلوك، ثم الاعتقاد بصحة أية نظرية علمية معينة تُعطي تفسيراً موحّداً لعدد من الظواهر الطبيعية المُـشاهَدة. كـلّ هذه عقائد،
وكلّها أساسية للعلم الطبيعي ولا غنى عنها، على خلاف ما يظن الكثيرون).
ولكي تبدو الصورة أكثر جلاءً يورد لنا محجوب أمثلة على دور (العقائد) في (العلم الطبيعي) التي يأخذ بها البعض ويتركها آخرون على أساس (القناعة الفردية)، فيقول: (خذ مثلاً النظريات في مجال الجاذبية، النظرية النيوتونية اختفت الآن من الساحة لوجود برهان على عدم صحتها في المجموعة الشمسية، ويبقى لدينا عدد من النظريات المتنافسة، منها النسبية العامة التقليدية، والنسبية العامة المطوّرة بإضافة حقول كلاسيكية، ونظرية الخيوط الفوقية التي تشمل كل الحقول الطبيعية. كل هذه النظريات على الساحة، ولا يوجد برهان تجريبي على اختلافها مع التجربة، والأمر في الأخذ بأي منها متروك للقناعة الفردية التي كثيراً ما تقوم على قناعات وفلسفات سابقة هي جزء من عقيدة الباحث الشخصية).
تـُرى أي بحر لـجّي يريد أن يقذف بنا فيه محجوب وهو يقارب بين مفهوم (العقيدة) و(القناعات الفردية)، وبين طروحات (المنهج العلمي) وحياده المشهور؟. أم هل هو يا ترى بتلك المقاربة والتشابك يقودنا إلى مرفأ الأمان، وبر الاطمئنان؟.
ذلك ما علينا اكتشافه في تتبعنا لهذا المنحى الفكري الذي أخذ به محجوب – رحمه الله -.