{ 35 - 36 } { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
لما أخرج اللّه بني آدم من الجنة، ابتلاهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم يقصون عليهم آيات اللّه ويبينون لهم أحكامه، ثم ذكر فضل من استجاب لهم، وخسار من لم يستجب لهم فقال: { فَمَنِ اتَّقَى } ما حرم اللّه، من الشرك والكبائر والصغائر، { وَأَصْلَحَ } أعماله الظاهرة والباطنة { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من الشر الذي قد يخافه غيرهم { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى، وإذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام، والسعادة، والفلاح الأبدي.
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا } أي: لا آمنت بها قلوبهم، ولا انقادت لها جوارحهم، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } كما استهانوا بآياته، ولازموا التكذيب بها، أهينوا بالعذاب الدائم الملازم.
{ 37 } { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }
أي: لا أحد أظلم { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ْ} بنسبة الشريك له، أو النقص له، أو التقول عليه ما لم يقل، { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ْ} الواضحة المبينة للحق المبين، الهادية إلى الصراط المستقيم، فهؤلاء وإن تمتعوا بالدنيا، ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ، فليس ذلك بمغن عنهم شيئا، يتمتعون قليلا، ثم يعذبون طويلا، { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ْ} أي: الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم.
{ قَالُوا ْ} لهم في تلك الحالة توبيخا وعتابا { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} من الأصنام والأوثان، فقد جاء وقت الحاجة إن كان فيها منفعة لكم أو دفع مضرة. { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ْ} أي: اضمحلوا وبطلوا، وليسوا مغنين عنا من عذاب اللّه من شيء.
{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ْ} مستحقين للعذاب المهين الدائم.
فقالت لهم الملائكة { ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ْ} أي: في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ْ} أي: مضوا على ما مضيتم عليه من الكفر والاستكبار، فاستحق الجميع الخزي والبوار، كلما دخلت أمة من الأمم العاتية النار { لَعَنَتْ أُخْتَهَا ْ} كما قال تعالى: { ويَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ْ}{ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ْ} أي: اجتمع في النار جميع أهلها، من الأولين والآخرين، والقادة والرؤساء والمقلدين الأتباع.
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ْ} أي: متأخروهم، المتبعون للرؤساء { لِأُولَاهُمْ ْ} أي: لرؤسائهم، شاكين إلى اللّه إضلالهم إياهم: { رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ْ} أي: عذبهم عذابا مضاعفا لأنهم أضلونا، وزينوا لنا الأعمال الخبيثة.
{ قَالَ ْ} اللّه { لِكُلٍّ ْ} منكم { ضِعْفٌ ْ} ونصيب من العذاب.
{ 39 ْ} { وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُم ْ}
أي: الرؤساء، قالوا لأتباعهم: { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ْ} أي: قد اشتركنا جميعا في الغي والضلال، وفي فعل أسباب العذاب، فأي: فضل لكم علينا؟ { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ} ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلال أبلغ وأشنع من عذاب الأتباع، كما أن نعيم أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من ثواب الأتباع، قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ْ} فهذه الآيات ونحوها، دلت على أن سائر أنواع المكذبين بآيات اللّه، مخلدون في العذاب، مشتركون فيه وفي أصله، وإن كانوا متفاوتين في مقداره، بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم، وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة عداوة وملاعنة.
{ 40 - 41 ْ} { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ}
يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها، مع أنها آيات بينات، واستكبر عنها فلم يَنْقَد لأحكامها، بل كذب وتولى، أنهم آيسون من كل خير، فلا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا وصعدت تريد العروج إلى اللّه، فتستأذن فلا يؤذن لها، كما لم تصعد في الدنيا إلى الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته كذلك لا تصعد بعد الموت، فإن الجزاء من جنس العمل.
ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر اللّه المصدقين بآياته، تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى اللّه، وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي، وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه.
وقوله عن أهل النار { وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ ْ} وهو البعير المعروف { فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ْ} أي: حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما، في خرق الإبرة، الذي هو من أضيق الأشياء، وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال، أي: فكما أنه محال دخول الجمل في سم الخياط، فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال دخولهم الجنة، قال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ْ} وقال هنا { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ْ} أي: الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم.
{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ْ} أي: فراش من تحتهم { وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ْ} أي: ظلل من العذاب، تغشاهم.
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ} لأنفسهم، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
{ 42 - 43 ْ} { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ}
لما ذكر الله تعالى عقاب العاصين الظالمين، ذكر ثواب المطيعين فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا ْ} بقلوبهم { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ} بجوارحهم، فجمعوا بين الإيمان والعمل، بين الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، بين فعل الواجبات وترك المحرمات، ولما كان قوله: { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ} لفظا عاما يشمل جميع الصالحات الواجبة والمستحبة، وقد يكون بعضها غير مقدور للعبد، قال تعالى: { لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ْ} أي: بمقدار ما تسعه طاقتها، ولا يعسر على قدرتها، فعليها في هذه الحال أن تتقي اللّه بحسب استطاعتها، وإذا عجزت عن بعض الواجبات التي يقدر عليها غيرها سقطت عنها كما قال تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ْ}{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ْ}{ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ْ}{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ْ} فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة.
{ أُولَئِكَ ْ} أي: المتصفون بالإيمان والعمل الصالح { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ} أي: لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلا، لأنهم يرون فيها من أنواع اللذات وأصناف المشتهيات ما تقف عنده الغايات، ولا يطلب أعلى منه.
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ْ} وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين، وأخلاء متصافين.
قال تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ْ} ويخلق اللّه لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم. فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه قد فقدت أسبابه.
وقوله: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ْ} أي: يفجرونها تفجيرا، حيث شاءوا، وأين أرادوا، إن شاءوا في خلال القصور، أو في تلك الغرف العاليات، أو في رياض الجنات، من تحت تلك الحدائق الزاهرات.
أنهار تجري في غير أخدود، وخيرات ليس لها حد محدود { و ْ} لهذا لما رأوا ما أنعم اللّه عليهم وأكرمهم به { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ْ} بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا، فآمنت به، وانقادت للأعمال الموصلة إلى هذه الدار، وحفظ اللّه علينا إيماننا وأعمالنا، حتى أوصلنا بها إلى هذه الدار، فنعم الرب الكريم، الذي ابتدأنا بالنعم، وأسدى من النعم الظاهرة والباطنة ما لا يحصيه المحصون، ولا يعده العادون، { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ْ} أي: ليس في نفوسنا قابلية للهدى، لولا أنه تعالى منَّ بهدايته واتباع رسله.
{ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ْ} أي: حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي أخبرت به الرسل، وصار حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين [لهم]، قالوا لقد تحققنا، ورأينا ما وعدتنا به الرسل، وأن جميع ما جاءوا به حق اليقين، لا مرية فيه ولا إشكال، { وَنُودُوا ْ} تهنئة لهم، وإكراما، وتحية واحتراما، { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ْ} أي: كنتم الوارثين لها، وصارت إقطاعا لكم، إذ كان إقطاع الكفار النار، أورثتموها { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ}
قال بعض السلف: أهل الجنة نجوا من النار بعفو اللّه، وأدخلوا الجنة برحمة اللّه، واقتسموا المنازل وورثوها بالأعمال الصالحة وهي من رحمته، بل من أعلى أنواع رحمته.
{ 44 - 45 } { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ }
يقول تعالى لما ذكر استقرار كل من الفريقين في الدارين، ووجدوا ما أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب من الثواب والعقاب: أن أهل الجنة نادوا أصحاب النار بأن قالوا: { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا } حين وعدنا على الإيمان والعمل الصالح الجنة فأدخلناها وأرانا ما وصفه لنا { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ } على الكفر والمعاصي { حَقًّا قالوا نعم } قد وجدناه حقا، فبين للخلق كلهم، بيانا لا شك فيه، صدق وعد اللّه، ومن أصدق من اللّه قيلا، وذهبت عنهم الشكوك والشبه، وصار الأمر حق اليقين، وفرح المؤمنون بوعد اللّه واغتبطوا، وأيس الكفار من الخير، وأقروا على أنفسهم بأنهم مستحقون للعذاب.
{ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي: بين أهل النار وأهل الجنة، بأن قال: { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ } أي: بُعْدُه وإقصاؤه عن كل خير { عَلَى الظَّالِمِينَ } إذ فتح اللّه لهم أبواب رحمته، فصدفوا أنفسهم عنها ظلما، وصدوا عن سبيل اللّه بأنفسهم، وصدوا غيرهم، فضلوا وأضلوا.
واللّه تعالى يريد أن تكون مستقيمة، ويعتدل سير السالكين إليه، { و } هؤلاء يريدونها { عِوَجًا } منحرفة صادة عن سواء السبيل، { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ } وهذا الذي أوجب لهم الانحراف عن الصراط، والإقبال على شهوات النفوس المحرمة، عدم إيمانهم بالبعث، وعدم خوفهم من العقاب ورجائهم للثواب، ومفهوم هذا النداء أن رحمة اللّه على المؤمنين، وبرَّه شامل لهم، وإحسانَه متواتر عليهم.
{ 46 - 49 } { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
أي: وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حجاب يقال له: { الأَعْرَاف } لا من الجنة ولا من النار، يشرف على الدارين، وينظر مِنْ عليه حالُ الفريقين، وعلى هذا الحجاب رجال يعرفون كلا من أهل الجنة والنار بسيماهم، أي: علاماتهم، التي بها يعرفون ويميزون، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نَادَوْهم { أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي: يحيونهم ويسلمون عليهم، وهم - إلى الآن - لم يدخلوا الجنة، ولكنهم يطمعون في دخولها، ولم يجعل اللّه الطمع في قلوبهم إلا لما يريد بهم من كرامته.
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } ورأوا منظرا شنيعا، وهَوْلًا فظيعا { قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فأهل الجنة [إذا رآهم أهل الأعراف] يطمعون أن يكونوا معهم في الجنة، ويحيونهم ويسلمون عليهم، وعند انصراف أبصارهم بغير اختيارهم لأهل النار، يستجيرون بالله من حالهم هذا على وجه العموم.
ثم ذكر الخصوص بعد العموم فقال: { وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وهم من أهل النار، وقد كانوا في الدنيا لهم أبهة وشرف، وأموال وأولاد، فقال لهم أصحاب الأعراف، حين رأوهم منفردين في العذاب، بلا ناصر ولا مغيث: { مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ } في الدنيا، الذي تستدفعون به المكاره، وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا، فاليوم اضمحل، ولا أغني عنكم شيئا، وكذلك، أي شيء نفعكم استكباركم على الحق وعلى من جاء به وعلى من اتبعه.
ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يستهزئ بهم أهل النار، فقالوا لأهل النار: { أَهَؤُلَاءِ } الذين أدخلهم اللّه الجنة { الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } احتقارا لهم وازدراء وإعجابا بأنفسكم، قد حنثتم في أيمانكم، وبدا لكم من اللّه ما لم يكن لكم في حساب، { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } بما كنتم تعملون، أي: قيل لهؤلاء الضعفاء إكراما واحتراما: ادخلوا الجنة بأعمالكم الصالحة { لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ } فيما يستقبل من المكاره { وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } على ما مضى، بل آمنون مطمئنون فرحون بكل خير.
وهذا كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } إلى أن قال { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } واختلف أهل العلم والمفسرون، من هم أصحاب الأعراف، وما أعمالهم؟
والصحيح من ذلك، أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلا رجحت سيئاتهم فدخلوا النار، ولا رجحت حسناتهم فدخلوا الجنة، فصاروا في الأعراف ما شاء اللّه، ثم إن اللّه تعالى يدخلهم برحمته الجنة، فإن رحمته تسبق وتغلب غضبه، ورحمته وسعت كل شيء.
{ 50 - 53 } { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
أي: ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، حين يبلغ منهم العذاب كل مبلغ، وحين يمسهم الجوع المفرط والظمأ الموجع، يستغيثون بهم، فيقولون: { أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } من الطعام، فأجابهم أهل الجنة بقولهم: { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا } أي: ماء الجنة وطعامها { عَلَى الْكَافِرِينَ } وذلك جزاء لهم على كفرهم بآيات اللّه، واتخاذهم دينهم الذي أمروا أن يستقيموا عليه، ووعدوا بالجزاء الجزيل عليه.
{ لَهْوًا وَلَعِبًا } أي: لهت قلوبهم وأعرضت عنه، ولعبوا واتخذوه سخريا، أو أنهم جعلوا بدل دينهم اللهو واللعب، واستعاضوا بذلك عن الدين القيم.
{ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزينتها وزخرفها وكثرة دعاتها، فاطمأنوا إليها ورضوا بها وفرحوا، وأعرضوا عن الآخرة ونسوها.
{ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ } أي: نتركهم في العذاب { كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } فكأنهم لم يخلقوا إلا للدنيا، وليس أمامهم عرض ولا جزاء.
{ وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } والحال أن جحودهم هذا، لا عن قصور في آيات اللّه وبيناته.
بل قد { جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } أي: بينا فيه جميع المطالب التي يحتاج إليها الخلق { عَلَى عِلْمٍ } من اللّه بأحوال العباد في كل زمان ومكان، وما يصلح لهم وما لا يصلح، ليس تفصيله تفصيل غير عالم بالأمور، فتجهله بعض الأحوال، فيحكم حكما غير مناسب، بل تفصيل من أحاط علمه بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء.
{ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي: تحصل للمؤمنين بهذا الكتاب الهداية من الضلال، وبيان الحق والباطل، والغيّ والرشد، ويحصل أيضا لهم به الرحمة، وهي: الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فينتفى عنهم بذلك الضلال والشقاء.
وهؤلاء الذين حق عليهم العذاب، لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم، ولا انقادوا لأوامره ونواهيه، فلم يبق فيهم حيلة إلا استحقاقهم أن يحل بهم ما أخبر به القرآن.
ولهذا قال: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ } أي: وقوع ما أخبر به كما قال يوسف عليه السلام حين وقعت رؤياه: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ }
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } متندمين متأسفين على ما مضى منهم، متشفعين في مغفرة ذنوبهم. مقرين بما أخبرت به الرسل: { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ } إلى الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } وقد فات الوقت عن الرجوع إلى الدنيا. { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }
وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم كذب منهم، مقصودهم به، دفع ما حل بهم، قال تعالى: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
{ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } حين فوتوها الأرباح، وسلكوا بها سبيل الهلاك، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث أو الأولاد، إنما هذا خسران لا جبران لمصابه، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم به، ويعدهم به الشيطان، قدموا على ما لم يكن لهم في حساب، وتبين لهم باطلهم وضلالهم، وصدق ما جاءتهم به الرسل.
|