عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-04-03, 09:23 PM   [2]
الاستاذ غازي الحربي
مشرف سابق
الصورة الرمزية الاستاذ غازي الحربي
 

الاستاذ غازي الحربي is on a distinguished road
افتراضي

[align=center]
من اللقاء


التغيرات الثقافية والسلوك الاقتصادى


أ.د/ أحمد يوسف سعد
أستاذ أصول التربية بجامعة طيبة



أولاً: فى معنى الثقافة:
تقوم الظاهرة الاجتماعية على حقيقتين أساسيتين:
- أن الإنسان كائن اجتماعى.
- أن السلوك الإنسانى يصدر فى شكل أنماط منتظمة ومتكررة بنفس الصورة تقريباً (مثلما يحدث فى الأفراد فى شئون الحياة اليومية) وبالتالى نجد قدراً من الاتفاق والتشابه فيما يصدر عنهم من سلوك فى المواقف الاجتماعية المختلفة، بما يعكس القواسم المشتركة بينهم فى أنماط السلوك، وإن لم تصل لحد التطابق التام.
لذلك فإن من المفاهيم الأساسية فى حقل العلوم الاجتماعية مفهوما (الثقافة والمجتمع) حيث العلاقة الوثيقة بينهما، فالثقافة تعنى القواسم المشتركة فى الأنماط السلوكية التى تشيع بين أفراد أى مجتمع من المجتمعات، ولا توجد إلا بوجود المجتمع الإنسانى، كما أن استمرار وبقاء المجتمع رهن بهذه الثقافة.

الثقافة إذن هى طريقة حياة مجتمع، ونمط متكامل لحياة ناسه، لا فرق هنا بين ثقافات بدائية وثقافات حديثة، هى طريقة حياة لأنها تشمل كل مركب من المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقوانين والعرف والعادات والتقاليد والخبرات والأفكار والتصورات التى يختزنها العقل الجمعى وتحرك وتحدد أنماط السلوك بين أفراد المجتمع. أو بمعنى آخر فهى ذلك الكل المركب الذى يحوى كل ما نفكر فيه، وكل ما نقوم به، كأعضاء داخل مجتمع إنسانى ما، على حد تعبير "روبرت بريستد" R. Bristedt.
والثقافة فى واقع الأمر ليست معطى ثابت ساكن جامد، بل هى ظاهرة متغيرة محكومة بنمط التغيرات التى تطرأ على كل جوانب المجتمع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، مثل أن يتغير نمط إنتاجه وطبيعة موارده، أو تتغير خصائص سكانه أو طبيعة بنائه السياسى، أو نظم ومستويات تعليمه، وكافة ما يتصل بحركة تاريخه. وكما تتغير الثقافة بفعل هذه العوامل والتحولات فهى أيضاً تؤثر فيها فى علاقة تفاعلية متبادلة.
وحيث أن الثقافة بالمعنى السابق تعتبر ظاهرة مركبة ذات أبعاد (فكرية) وأخرى (سلوكية) وثالثة (مادية) فإن الورقة الحالية تركز حديثها حول الثقافة كنمط وأسلوب حياة ينعكس على أنماط السلوك الاقتصادى، سعياً لشرح العلاقة التفاعلية بين الثقافة والحياة الاقتصادية داخل المجتمعات الإنسانية وكيف يصيبهما التغيير.

ثانياً: فى معنى السلوك الاقتصادى:

السلوك الاقتصادي هو الطريقة أو الأسلوب الذى يتبعه الافراد والحكومات لإشباع الحاجات المتجددة والمتنوعة سواء الأساسية أو الثانوية، وذلك عبر الموارد المتاحة بافضل الطرق الممكنة كما يراها هؤلاء.
ويرتبط السلوك الاقتصادي بممارسة الاختيار و الفرص البديلة وتحديد الأولويات ونمط التوزيع بما يحقق الاهداف المرجوة من النشاط الاقتصادي الخاص و العام.
ولا شك فى أن محددات وموجهات السلوك الاقتصادي للأفراد وللحكومات إنما تحكمه عناصر الثقافة السائدة من قيم ومعتقدات ونسق أخلاق وقوانين وعرف وعادات وتقاليد وخبرات وأفكار وتصورات يختزنها العقل الجمعى وتحرك وتحدد كل أنماط السلوك بين أفراد المجتمع.

فالادخار والإسراف والسلوك الإنتاجى والسلوك الاستهلاكى والتخطيط والعشوائية والتقتير والتبذير وغيرها من انماط السلوك الاقتصادى إنما تتحدد وتتحرك وفق ما يختزنه عقل الأفراد والعقل الجمعى من ثقافة.
فكيف قدمت النظريات الاجتماعية المختلفة تفسيراتها حول السلوك الاقتصادى فى ضوء المتغيرات الثقافية داخل المجتمع الإنسانى؟ وكيف كان موقف تراثنا الإسلامى؟

ثالثاًً: التفسير الاجتماعى/الثقافى للسلوك الاقتصادى (ظاهرة الاستهلاك نموذجاً)
كان السلوك الاقتصادى من أبرز الظواهر التى عنيت بتفسيرها النظريات الاجتماعية الكبرى، فماذا عن ظاهرة "الاستهلاك" كنموذج داخل هذه النظريات، وكيف تعامل معها تراثنا الإسلامى؟

1- تفسير المادية التاريخية لظاهرة الاستهلاك:

يرى ماركس صاحب هذه النظرية بأن الاستهلاك هو أحد العناصر الثقافية للنظام الرأسمالى، بل هو الوجه الآخر لظاهرة الإنتاج، وذلك باعتبار أن التملك والملكية الفردية هما أساس هذا النظام، فالاستهلاك يزيد من قيمة الربح واستمرار دوران عجلة الانتاج، بالتالى فإن التغيرات التى طرأت على نمط الانتاج من إنتاج الكفاية حيث ينتج الأفراد ما يحتاجونه، إلى نمط إنتاج الوفرة حيث يتم الانتاج للآخرين، أدى ذلك إلى ظهور "السوق" وإلى بزوغ قيمة الاستهلاك.

2- المنظور الوظيفى وظاهرة الاستهلاك:

يرى رواد الاتجاه الوظيفى مثل آدم سميث، وماكس فيبر، وإميل دوركايم، بأن السلوك الاقتصادى كالاستهلاك مثلاً إنما يتحدد بالقيم والأفكار المرتبطة بالرغبة الإنسانية فى الاستحواذ، بمعنى أن الفكر هو الذى يشكل طبيعة الحياة الاقتصادية، عكس الماركسية التى رأت أن طبيعة الحياة الاقتصادية هى التى تشكل الفكر فى هذا الصدد.

3- التفسيرات الاجتماعية المعاصرة لظاهرة الاستهلاك:
- يرى المفكر الاجتماعى المعاصر ثورتشاين فيبلن Thorstein Veblen أن هناك عوامل اجتماعية تحدد نمط الاستهلاك، فعضو الطبقات الثرية يحرص على شراء السلع باهظة التكاليف، ليس لجودتها فقط، أو لحاجته الملحة لها، بل لتأكيده بأنه عضو داخل طبيقة اجتماعية مرفهة، فالغرض بالتالى ليس تحقيق "المنفعة" بل "التباهى" عبر الاستهلاك المظهرى المفرط.
- ويرى منتقدو ظاهرة "العولمة" أنها تسعى لخلق "سوق كونى" بين شعوب الأرض، وأن ظاهرة "التنميط الثقافى" التى تجرى هنا وهناك عبر الموسيقى والفنون وثقافة مكدونالد وكنتاكى والبيبسى..الخ هدفها تجهيز جيوش من المستهلكين على الأرض لما تنتجه القوى المهيمنة عالمياً من سلع وخدمات، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية ورجال الأعمال فيها.

4- تراثنا الإسلامى ووضع إطار أخلاقى يجابه ظاهرة الاستهلاك:

ثلاث مواقف أخلاقية كبرى حددها الدين الإسلامى، وهى مواقف يمكن أن تكون ميثاقاً أخلاقياً للسلوك الاقتصادى:
- "التعقل والتدبر" وهو ما يترجم اقتصادياً إلى نهج التخطيط العقلانى لأمور الحياة، ومنها ما يتصل بالسلوك الاقتصادى بطبيعة الحال.
- إدانة "التبذير والتقتير" باعتبارهما من المكاره الأخلاقية.
- النهى عن "التباهى والاستعلاء" لتى أشارت التفسيرات الاجتماعية المعاصرة بوقوفهما خلف ظاهرة الاستهلاك المظهرى المترف.

رابعاً: تحولات اجتماعية وثقافية طارئة على المجتمعات العربية أثرت على السلوك الاقتصادى:
(1) التحولات وأسئلة مترتبة عليها:
يمكن إدراج مجموعة كبيرة من التحولات: ومن أهم هذه التحولات: العولمة، وموجة المعلوماتية والاتصال، واقتصاد المعرفة، وانتهاء الحرب الباردة، وسيادة نظام السوق الاقتصادي والخصخصة، وصعود تأثير وسائل الإعلام (الإنترنت والفضائيات) واستقلاليتها إلى حد ما.
وتبدو الظواهر الجديدة المعبرة عن هذه التحولات واستجاباتها واضحة وكثيرة، مثل الحركات الاجتماعية العالمية والمحلية، والأصولية، وتغير دور الدولة، وهيمنة الشركات الكبرى والاستثمارات العابرة للحدود.
ولاشك أنها تحولات وظواهر قد أثرت على هياكل الدول اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً داخل المجتمعات العربية من زوايا متعددة، لكل زاوية سؤال نطرحه:

- عندما تتخلى الدول عن دورها السابق في الرفاه والتنمية والرعاية أن تحل محلها مؤسسات أخرى مثل المجتمعات الأهلية والشركات، والسؤال البدهي كيف تتمكن المجتمعات من القيام بدورها الجديد المفترض الذي كانت تؤديه الدولة؟

- عندما تتغير أدوات التعليم وتداول المعلومات فإن ثمة سؤالا بدهيا عن الدور الجديد للمدارس والأسر والجامعات في التعليم والإعداد لعالم العمل؟
- إذا كانت تصاحب كل نظام اقتصادي ومعيشي أنماط مترتبة عليه من الثقافة والقيم والأنظمة الاجتماعية التي تفعله وتتفق معه فما الثقافة الاجتماعية الجديدة التي يجب أن تحل في مرحلة المعرفة والمعلوماتية، وماذا نفعل بالتراث الثقافي والاجتماعي الذي نشأ عن أنظمة اقتصادية سابقة مثل الرعي والزراعة والصناعة؟

- حيث أن التحولات الثقافية والاجتماعية لا تأتي على نحو تلقائي بنفس تلقائية التحولات الاقتصادية والسياسية، ولكنها تحتاج إلى وعي مسبق وإدراك واضح لدى الدول والمجتمعات والأفراد لأجل السعي إليها وتحقيقها، ما العمل إزاء ما يعتمل بين الشعوب العربية من خلل وارتباك قيمى وثقافى واجتماعى خلفته التحولات الاقتصادية والسياسية السابقة دون تأهيل وإعداد ثقافى مواز لها؟ وربما يفسر هذا بطبيعة الحال كثيرا من الصراعات والحروب الأهلية والطائفية والتخلف وضعف مستوى التنمية لدى كثير من الدول والمجتمعات رغم أنها اقتبست المؤسسات الحديثة والأنظمة الاقتصادية والتعليمية والتقنية المطبقة في دول غنية ومتقدمة.

- والسؤال البدهي هو هل تحتاج المجتمعات العربية التي لم تنشئ بعد نظاما ثقافيا واجتماعيا حديثا متفقا مع الدولة الحديثة والمرحلة الصناعية إلى أن تقفز عن المرحلة لتنتقل إلى مرحلة المعرفة وتداعياتها؟
وهنا تكون أهمية الإدراك المسبق بالتحولات من أجل "حرق المراحل" والوعي بما تريده المجتمعات وما تسعى إليه بالتحديد، أم أن تلك في رأي بعض المثقفين هواجس لم نصل إليها بعد؟

(2) التداعيات والمواجهات المرغوبة:
- لقد برزت بقوة مفاهيم العدالة الاجتماعية وتمكين المجتمعات في مرحلة تخلي الدول عن القيام بكثير من الخدمات الأساسية، كالتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، وإدارة الموارد وتشغيلها، كالطاقة والمياه والاتصالات، وتحويل هذه الخدمات إلى سلع استثمارية، وقد تباع لشركات غير وطنية، خاصة الشركات متعددة الجنسيات التي أصبحت أغنى وأقوى من الدول.
- وحيث أن أن هذه الشركات لا يمكن أن تكون بديلا للدولة، فيقتضي هذا الوضع بالضرورة أن تكون المجتمعات بديلا للحكومات في هذه المجالات، ويقتضي أيضا تأهيل المجتمعات وتمكينها من القيام بهذا الدور
يعني تمكين المجتمعات قدرتها على تنظيم نفسها وإدارة مواردها وحقوقها واحتياجاتها الأساسية، والقدرة على التأثير والمشاركة في الحكم على النحو الذي يوسع خياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويجعل مؤسسات الحكم والإدارة أمينة وقادرة على التعامل مع التفويض الذي منحه المواطنون لها للتصرف بالموارد والضرائب العامة وفق مصالح المواطنين واتجاهاتهم، ويمكنهم من تحقيق توازن مع السلطات والمؤسسات ومن محاسبة هذه المؤسسات ومراقبتها وتوجيهها.
- في الوقت نفسه فإن التحولات والتغيرات العالمية القائمة على أساس المعرفة والمعلوماتية والاتصالات، تعطي المجتمعات والطبقات الوسطى فرصا جديدة، تجعلها قادرة على التحرك وفرض إرادتها.
- ترسخ الحريات والحقوق والإصلاحات المرغوب فيها، تحتاج إلى أن ترتبط بها مصالح الناس واحتياجاتهم وحقوقهم الأساسية، كالعمل والتوظيف والعطاءات والعقود والتعليم والإسكان والانتماء والمشاركة والضرائب والأجور وتنظيم المهن وتطويرها والقضايا والتجمعات العمالية والمشروعات والاستثمارات التعاونية والنفع العام وتنظيم المجتمعات في مواجهة الشركات وفي مواجهة السلطة.
- يبدو أن ثمة تحديات رئيسة عاجلة تفرض أن يسند للمجتمعات دور واسع في الحكم، إذ بعد سنوات قليلة ستكون ثمة حالة تنتهى فيها مؤسسات التقاعد والتأمين الصحي الحكومي لتحل مكانها شركات التأمين والضمان الاجتماعي، وسيكون ثمة عدد هائل من كبار السن والمواطنين عامة الذين لا يتمتعون بتأمين صحي وتقاعد، مع أنه لا يمكن الركون إلى حالة التكافل الاجتماعي والأسري لتغطية وإدارة احتياجات كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، ففي ظل تغير دور الحكومة ستواجه المجتمعات تحديا كبيرا في تأمين ورعاية هذه الفئات، ولا نحتاج إلى سنوات عدة لنكتشف هذه الحالة، فهي قادمة حتما، وسيكون مفيدا البدء في تأهيل المجتمعات لتكون قادرة على أن تكون بديلا مناسبا.
جملة تداعيات لا شك خطيرة، وتصب فى صميم واقع الحياة اليومية للمواطن العربى وحياته الاقتصادية والاجتماعية، وتحتاج من الجميع بلورة ونشر ثقافة مجتمعية بديلة تسعى للحفاظ على حياة وكرامة المواطن داخل وطنه وجماعته وتؤهله لسلوك اقتصادى رشيد يعلى من قيمة ومعنى الصالح العام، وتعزز قناعات ان لا حياة للأنا بمعزل عن المجموع، وأن لا مجال للعزوف عن المشاركة فى إدارة وتخطيط الموارد لحماية الفرد والمجموع معاً، وأن لا مجال كذلك لشل نصف طاقة المجتمع (المراة) فى مجالات التنمية، ولا مجال للتقاعس عن تطوير نظمنا التربوية والتعليمية والتأهيلية.







[/align]


التوقيع:
الاستاذ غازي الحربي غير متواجد حالياً    رد مع اقتباس