المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رمضان وقفات وأحكام لمادة الفقه للصف الثاني المتوسط الفصل الأول لعام 1435/1434هـ


الأستاذ أبو يوسف
2013-11-20, 12:55 AM
رمضان وقفات وأحكام

الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد



http://www.youtube.com/watch?v=CS7UCSbbNCI&feature=youtu.be
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله …
أما بعد:
أحييكم أيها الأفاضل في هذه الليلة، ليلة الخميس، السابع والعشرين من شهر شعبان لعام 1419هـ، وفي جامع: النور بمحافظة الخبر.
ومع محاضرة بعنوان: رمضان وقفات وأحكام.
لي معكم في هذه المحاضرة بعد توفيق الله - عز وجل - خمسة وقفات:
أولاً: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة].
إن الغاية الأولى من الصيام هي إعداد القلوب للتقوى والخشية من الله تعالى، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، فهي غاية تتطلع إليها النفوس اليقظة، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها. فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى، وهذا الدين دين الله لا دين الناس، وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن صلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام، ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم.

إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه *** ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمّما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة *** إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

الصوم يصنع الإنسان صناعة جديدة تخرجه من ذات نفسه وتكسر القالب الأرضي الذي صُبّ فيه، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسده فلا تغره الدنيا ولا يمسكه الزمان ولا تخضعه المادة، ولهذا كان من الطبيعي جداً أن يفرض الصوم على الأمة التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض وللقوامة على البشرية.
قال الله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [(112) سورة التوبة]، قال ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة: هم الصائمون.
إن الله غني عن تجويع القوم، فافهم من الخلوف معنى الصوم، فأنت المراد من هذا الكون. فكم من ملائكة كرام ما ذاقوا طعاماً ولا شربوا شراباً ليس لهم مرتبة ((ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك)).
ليس الصوم صوم جماعة الطغام عن الجماع والطعام، إنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام، وصمت اللسان عن فضول الكلام، وغض العين عن النظر إلى الحرام، وكفُّ الكفِّ عن أخذ الحطام، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام.
جاعوا بالنهار وما يفهمون كيف صاموا، وشبعوا بالليل فناموا وما قاموا، قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم.
إن الإخلاص هو محور دعوات الرسل، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [(2) سورة الزمر]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [(11) سورة الزمر].
قال بعضهم: نفاق المنافقين صيّر المسجد م**لة – لا تقم فيه أبداً – وإخلاص المخلصين رفع قدر الوسخ – رب أشعث أغبر –.
لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تتشبه وقالت: لك نسج ولي نسج فقالت دودة القز: ولكن نسجي أردية بنات الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسجين يبين الفرق.
إن الأمة أحوج ما تكون إلى إخلاص أبنائها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) [رواه النسائي بسند صحيح].
ومن هنا تأتي أهمية الصوم ومعناه الكبير! إذ كل عبادة سواه قد يدخلها الرياء وإرادة وجه المخلوقين حتى الصلاة خير الأعمال قد يدخلها الرياء.
لا شك أن العبد يشعر بألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن حال الصيام، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [(120) سورة التوبة].
قال بعض السلف: صم الدنيا واجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهر رمضان، المتقون يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم.
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حرّم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، شاهد ذلك قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} [(20) سورة الأحقاف].
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه بقدوم رمضان أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح، عن أبي قلابة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه: ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)).
قال ابن رجب - رحمه الله -: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، كيف لا يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنة، كيف لا يُبشّر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يُبشّر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين. من رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.

أتي رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفساد
فأدِ حقوقه قولاً وفعلاً *** وزادك فاتخذه إلى المعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها *** تأوّه نادماً يوم الحصاد

كم ممن أمّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، ومؤمل غداً لا يدركه.
فهلّم يا باغي الخير إلى شهر يضاعف فيه الأجر للأعمال، وهلّم يا باغي الخير إلى شهر العتق من النيران، إلى شهر ليلة القدر، إلى شهر الدعاء، إلى شهر مضاعفة الحسنات.

في كل عام لنا لقيا محببة *** يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين والقلب بالآذان أرقبه *** وكيف لا وأنا بالروح أحياه
والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت *** ساعاتها ما أُحيلاه وأحلاه
فنوره يجعل الليل البهيم ضحىً *** فما أجلّ وما أحلى محياه
ألقاه شهراً ولكن في نهايته *** يمضي كطيف خيال قد لمحناه
في موسم الطهر في رمضان الخير *** تجمعنا محبة الله لا مالٌ ولا جاه
صاموه قاموه إيماناً ومحتسباً *** أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه
وكلهم بات بالقرآن مندمجاً *** كأنه الدم يسري في خلاياه
فالأذن سامعة والعين دامعة *** والروح خاشعة والقلب أوّاه

يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا إقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، قد مدت في هذه الأيام موائد الأنعام للصوام، فما منكم إلا من دُعي {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [(31) سورة الأحقاف].
كم ينادى حي على الفلاح وأنت خاسر، وكم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر.

يتلذذون بذكره في ليلهم *** ويكابدون لدى النهار صياما
فسيغنمون عرائساً بعرائس *** ويبوءون من الجنان خياما
وتقر أعينهم بما أخفى لهم *** وسيسمعون من الجليل سلاما

إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم وسُيسمع، ومع هذا فلا القلب يخشع، ولا العين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشابّ منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أما لنا فيهم أسوة؟ ما بيننا وبين حال القوم أبعد مما بين الصفا والمروة، كلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأعمال. فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلاّ به.

ثانياً: وقفات مع بعض أحاديث الصوم:
عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: ((عليك بالصوم فانه لا عدل له)) قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: ((عليك بالصوم فانه لا عدل له))، وفي رواية أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به، قال: ((عليك بالصيام فانه لا مثل له)) [رواه النسائي بسند صحيح].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عز وجل -: كل عمل ابن آدم له، إلاّ الصوم فانه لي وأنا أجزي به)) [رواه البخاري]. وعند مسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلاّ الصوم لي وأنا أجزي به)).
قال ابن عبد البر: كفى بقوله ((الصوم لي)) فضلاً للصيام على سائر العبادات، وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى ((الصوم لي وأنا أجزي به)) مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال:
أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيرها، وهو شيء في القلب؛ وذلك لأن الأعمال لا تكون إلاّ بالحركات، إلاّ الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس. قال ابن عبد البر: وهذا وجه الحديث عندي.
وعن عثمان ابن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصوم جُنّة من عذاب الله)) [رواه البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح]. وفي رواية ((الصيام جنّة يَستجنّ بها العبد من النار)).
قال المناوي - رحمه الله -: وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة وحفظ الجوارح، وفي الآخرة من النار.
وقال: الصوم جنّة من عذاب الله، فليس للنار عليه سبيل كما لا سبيل لها على مواضع الوضوء؛ لأن الصوم يغمر البدن كله فهو جُنّة لجميعه برحمة الله من النار.
فكيف إذا جمع العبد مع الصوم الجهاد، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صيام المرء في سبيل الله يبعده من جهنم مسيرة سبعين عاماً)) [رواه الطبراني في الكبير بسند صحيح].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام)) [رواه النسائي بسند صحيح].
وعند البخاري: ((ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً)).
أي نحاه وباعده عن النار بمسافة تقطع في سبعين سنة، وخص الخريف دون غيره من الفصول؛ لأنه وقت بلوغ الثمار وحصول سعة العيش، وذلك لأنه تحمّل مشقة الصوم ومشقة الغزو فاستحق هذا التشريف.
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة باباً يقال له الريّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)).
قال ابن المنيّر: إنما قال في الجنة ولم يقل للجنة ليشعر بأن في الباب المذكور من النعيم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في التشوق إليه.
قال ابن حجر عن الريّان: وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه لأنه مشتق من الريّ وهو مناسب لحال الصائمين.
وقال الزركشي: الريان فعلان كثير الريّ، وليس المراد به المقتصر على شهر رمضان بل ملازمة النوافل من ذلك وكثرتها.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل عمل ابن آدم له إلاّ الصيام، والصيام لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) [رواه مسلم].
إن للطاعات يوم القيامة ريحاً تفوح، فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عن دم الشهيد الذي يقتل في سبيل الله أن ريحه ريح المسك.
قال ابن جماعة: وخلوف فم الصائم أفضل من دم الجريح في سبيل الله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الشهيد إن ريحه ريح المسك، وقال في خلوف الصائم أنه أطيب من ريح المسك، ووجهه أن الجريح يظهر أمره للناس فربما دخله رياء، والصائم لا يعلم بصومه إلا الله، فلعدم دخول الرياء فيه صار أرفع.
قال ابن حجر: ولعل سبب ذلك النظر إلى أصل كل منهما فان أصل الخلوف طاهر وأصل الدم بخلافه، فكان ما أصله طاهر أطيب ريحاً.
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: إصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقال: إنا سنسهله لك، فصعدت، حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم)) [رواه ابن خزيمة وابن حبان والنسائي وهو صحيح].
قال المنذري: قبل تحلة صومهم: يفطرون قبل وقت الإفطار.
إن مخالفة إجماع المسلمين في الصوم والإفطار وكذلك مخالفتهم في الأعياد من فعل أهل البدع كالرافضة وغيرهم، وهذا أمر خطير، وعقابه شديد، كما سمعت في الحديث -: ((فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم)).

برئت إلى الرحمن من كل رافضٍ *** بصيرٍ بباب الكفر في الدين أعورا
إذا كف أهل الحق عن بدعة مضى *** عليها وإن يمضوا إلى الحق قصّرا
ولو قيل إن الفيل ضبٌ لصدقوا *** ولو قيل زنجيّ تحوّل أحمرا
واخلف من بول البعير فإنه *** إذا هو للإقبال وُجِّه أدبرا
فيا قبح أقوام أتونا بفرية *** كما قال عيسى الفِرَى من تنصرا

وعن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلةُ السحر)) [رواه مسلم].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى: وفيه دليل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع، قال مالك: ولذلك كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرهون ترك العمل يوم الجمعة لئلا يصنعوا فيه كما فعل اليهود والنصارى في السبت والأحد.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) [رواه الترمذي وأحمد بسند حسن].
قال شيخ الإسلام: وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى، وإذا كانت مخالفتهم سبباً لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة.
قال ابن عبد البر: تعجيله بعد تيقن الغروب من سنن المرسلين، فمن حافظ عليه تخلّق بأخلاقهم، ولأن فيه مخالفة أهل الكتاب في تأخيرهم إلى اشتباك النجوم، وفي ملتنا شعار أهل البدع، فمن خالفهم واتبع السنة لم يزل بخير.
عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم)) [رواه ابن حبان بسند صحيح].

قلّب فؤادك في محاسن شرعنا *** تلقى جميع الحسن فيه مصورا
كم من معانٍ في صيام نبينا *** نفحٌ أرقّ من النسيم إذا سرى
وانظر لفرق صيامهم وصيامنا *** نهراً تفجّر أحمدياً كوثرا
فدهِشتُ بين جماله وجلاله *** وغدا لسان الحال عني مخبرا
لو أن كل الحسن أكمل صورة *** ورآه كان مُهللاً ومكبرا

وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ختم له بصيام يوم دخل الجنة)) [رواه البزار وهو صحيح].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)) [رواه البيهقي في شعب الإيمان وهو صحيح].

ثالثاً: بعض خصائص رمضان:
إن شهر رمضان أيها الأحبة، له في قلوب المسلمين معانٍ خاصة، فقد ميزه المولى - جل وتعالى - عن باقي الشهور بعدة خصائص، وميزه بعدة سمات، فهذه بعضها :-
رمضان شهر تكفير السيئات:
أنعم الكريم سبحانه على الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه وجعل شهرها هذا مخصوصاً بعميم غفرانه. فيا أيها الأحبة، أيام رمضان أيام محو ذنوبكم فاستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم، هي أيام الإنابة، فيها تفتح أبواب الإجابة، فأين اللائذ بالجناب؟ أين المتعّرض بالباب؟ أين الباكي على ما جنى؟ أين المستغفر لأمر قد دنا؟ أين المعتذر مما جناه فقد اطّلع عليه مولاه؟ أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره؟.
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني جبريل فقال يا محمد: من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأُدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت آمين)) [رواه الطبراني في الكبير].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) [رواه مسلم].
يا من كان يجول في المعاصي قبل رمضان، ها قد أعطاك الله الفرصة، لا تكن كمن كلما زاد عمره زاد إثمه.
فيا أيها الغافل، اعرف نفسك، وانتبه لوقتك، يا متلوثاً بالزلل، اغسل بالتوبة أدرانك، يا مكتوباً عليه كل قبيح، تصفح ديوانك.
لو قيل لأهل القبور تمنّوا لتمنوا يوماً من رمضان، وأنت كلما خرجت من ذنب دخلت في آخر، أنت، نعم أنت، أما تنفعك العبر؟ أصُمّ السمع أم غُشَي البصر؟ آن الرحيل وأنت على خطر وعند الممات يأتيك الخبر.
قال بعضهم: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمراتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قُطّافها.
يا من قد ذهبت عنه هذه الأشهر، وما تغيّر، أقولها لك صريحة: أحسن الله عزاءك.

أنا العبد الذي كسب الذنوبا *** وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا *** على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد المسيء عصيت سراً *** فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري *** فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحر *** أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا *** وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا الغدّار كم عاهدت عهداً *** وكنت على الوفاء به كذوبا
فيا أسفي على عمر تقضّى *** ولم أكسب به إلا الذنوبا
ويا حزناه من حشري ونشري *** بيوم يجعل الولدان شيبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي *** إذا ما أبدت الصحف العيوبا
ويا حذراه من نار تلظى *** إذا زفرت أقلقت القلوبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا *** خطاه أما آن الأوان لأن تتوبا

ومن خصائص رمضان أنه شهر التراويح، شهر التهجد والمصابيح:
عجباً لأوقاته ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها، طوبى لعبد صام نهاره، وقام أسحاره.
إليك يا أخي الحبيب بعض فوائد صلاة التراويح:
منها: أن قيام رمضان من الإيمان ومغفرة لسالف الذنوب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه].
ومن فوائد التراويح: أن مصليها يستحق اسم الصديقين والشهداء، وهذا من فيض الكريم - سبحانه وتعالى -. جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته فمِمّن أنا؟ قال: ((من الصديقين والشهداء)) [رواه البزار وابن خزيمة وهو صحيح].
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا دخل أول ليلة من رمضان يصلي المغرب ثم يقول: "أما بعد: فإن هذا الشهر كتب عليكم صيامه ولم يكتب عليكم قيامه فمن استطاع منكم أن يقوم فليقم، فإنها نوافل الخير التي قال الله" [أخرجه عبد الرزاق في مصنفه].
ومن فوائد وبركات صلاة التراويح: أن من قام مع إمامه كتب له قنوت ليلة، عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة)) [رواه أصحاب السنن وهو صحيح]، تصلي مع الإمام حتى ينصرف وتتصبر هذه الدقائق يكتب لك قيام ليلة كاملة.
فاتق الله يا عبد الله في عمرك الذي مضى أكثره، وأقبل على صلاة التراويح يُقبل الله عليك وانظر إلى سلفك من الصحابة.
عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة، قال وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنّا نعتمد على العصيّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح - أي السحور -.
وما صلاح الأجساد إلا بانتصابها لربها في القيام والتراويح، وهو شفاء من أمراض الأجساد والقلوب ورفعة للدرجات عند علام الغيوب وهذا طريق الصالحين من قبلنا.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم، وتكفير السيئات ومطردة للداء عن الجسد)) [حديث صحيح رواه الترمذي وغيره].
وقد كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها من طول القيام في التراويح.
فرحم الله رجلاً قدم لآخرته، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وقدم مهره، فإنما مهر الحور الحسان طول التهجد بالقرآن.
فبادر يا أخي فإنه مبادر بك.
كان أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول: "صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوماً شديداً حرّه لحرّ يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشرّ يوم عسير".

وقل ساعدي بالنفس بالصبر ساعةً *** فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلاً
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي *** ويصبح ذا الأحزان فرحان جاذلا

وأيضاً من خصائص رمضان أنه شهر فتح أبواب الجنان:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) [رواه البخاري ومسلم].
إن فتح أبواب الجنة في رمضان حقيقة، لا تحتاج إلى تأويل، وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر.
إنها الجنة يا عباد الله التي غرس غراسها الرحمن بيده.
إنها الجنة التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها.
إنها الجنة دار كرامة الرحمن فهل من مشمر لها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها.
إنها الجنة التي اشتاق إليها الصاحون من هذه الأمة، فسلوا عنها جعفر الطيار وعمير بن الحمام وحرام بن ملحان وأنس بن النضر وعامر بن أبي فهيرة، وعمرو بن الجموح وعبد الله بن رواحه.
نعم إنها الجنة التي فتحت أبوابها هذه الأيام ولكن يا عجباً لها كيف نام طالبها وكيف لم يدفع لمهرها في رمضان خاطبها، وكيف يطيب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها.
إنها الجنة، دار الموقنين بوعد الله، المتهجدين في ليالي رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين لعباد الله.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قالوا لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)) [رواه الإمام أحمد]. إنها الجنة ما حُليت لأمة من الأمم مثلما حُلّيت لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
إن نبي الله موسى - عليه السلام - خدم العبد الصالح عشر سنوات مهراً لزواجه من ابنته، فكم تخدم أنت مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان؟.
أن مفاتيح الجنة مع أصحاب قُوّام الليل، وهم حُرّاسها، فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [(22-25) سورة القيامة].

فحي على جنات عدن فإنها *** جج منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
فلله أبصار ترى الله جهرة *** فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرةً *** أمن بعدها يسلو المحب المتيم
أجئتنا عطفاً علينا فإننا *** بنا ظمأً والمورد العذب أنتم

ومن خصائص رمضان أنه شهر غلق أبواب النيران:
قال الله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [(21، 22) سورة النبأ]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأيم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيتُ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)) [رواه مسلم من حديث أنس].
النار التي رأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحطم بعضها بعضاً، والتي قال عنها - صلى الله عليه وسلم - لما رآها: ((لم أر منظراً كاليوم قط أفظع من النار)).
هذه النار هي مخلوقة الآن، موجودة الآن، إنها معدة، فإياك ثم إياك أن تكون من وقودها.
لقد أُخبرت بأن النار مورد الجميع {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [(71، 72) سورة مريم].
فأنت من الورود على يقين، لكنك من النجاة في شك. استشعر يا أخي في قلبك هول ذلك المورد فعساك أن تستعد للنجاة منه، تأمل في حال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا فبينما هم في كربها وأهوالها، ينتظرون حقيقة أبنائها، وتشفيع شفعائها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة، تفصح عن شدة الغيظ والغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، حتى أشفق البريء من سوء المنقلب، وخرج المنادي من ال**انية قائلاً: أين فلان بن فلان، المسوّف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامع من حديد، ويستقبلونه بعظائم التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، ثم ينكسونه في قعر الجحيم، ويقولون له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [(49) سورة الدخان].
فَأُسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، ومستقرهم الجحيم، ال**انية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك وما لهم منها فكاك، قد شُدّت أقدامهم إلى النواصي واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول ال**انية: هيهات لات حين أمان، ولا خروج لكم من دار الهوان.
يا عبد الله: إن القضية جد، إنه لقول فصل وما هو بالهزل، نار غمٌّ قرارها، مظلمةٌ أقطارها، حاميةٌ قدورها، فظيعةٌ أمورها، عقابها عميم، عذابها أليم، بلاؤها شديد، وقعرها بعيد، سلاسل وأغلال، مقامع وأنكال، زمانهم ليل حالك، وضجيجهم ضجيج هالك، يصطرخون فيها فلا يجيبهم مالك، ومقامع الحديد تهشم جباههم، ويتفجر الصديد من أفواههم، وينقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم، لهيب النار سار في بواطن أعضائهم، وحيات الهاوية وعقاربها تأخذ بأشفارهم.
نعوذ بالله أن نكون من قوم لباسهم نار، ومهادهم نار، لُحُفٌ من نار، ومساكن من نار، وهم والعياذ بالله في شر دار.

فيها غلاظ شداد من ملائكة *** قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة *** وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء مظلمة شعثاء موحشة *** دهماء محرقة لواحة البشر
يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم *** فالموت شهوتهم من شدة الضجر
ضجوا وصاحوا زمانا ليس ينفعهم *** دعاء داع ولا تسليم مصطبر
وكل يوم لهم في طول مدتهم *** نزع شديد من التعذيب في سقر

فيا أخي الكريم، إذا كانت النار بهذه المثابة بل أشد، فإني أسألك أيها العاقل، أليست فرصة أن تغلق أبوابها في الأيام القادمة إن كنا أحياءً فإن لم تنتهز الفرصة الآن، فمتى يكون؟

فيا عجباً ندري بنار وجنة *** وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر
إذا لم يكن خوف وشوق ولا حيا *** فماذا بقى فينا من الخير يذكر
وليس لحر صابرين ولا بلى *** فكيف على النيران يا قوم نصبر
وفوق جنان الخلد أعظم حسرة *** على تلك فليستحسر المتحسر

وأيضاً من خصائص رمضان أنه شهر القرآن:
بل هو شهر الكتب السماوية كلها، عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل ال**ور لثمان عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)) [حديث حسن رواه الطبراني وأحمد].
أما القرآن خاصة فيقول الله - جل وتعالى -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [(185) سورة البقرة].
إن للصيام علاقة خاصة بالقرآن، فإذا علم هذا فلعله يتضح سرّ إقبال الناس على القرآن في رمضان قراءةً وحفظاً واستماعاً دون بقية الطاعات والقربات.
قال ابن رجب: كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها. وقال أيضاً: وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام. وقال ابن الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم.
وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، أسأل الله - جل وتعالى - للجميع القبول والإعانة.
ومن خصائص رمضان أنه شهر الدعاء:
إن لم يكن رمضان وقت الدعاء المستجاب ففي أي شهر يكون الدعاء؟ إنه وقت الشفاه الذابلة، والطاعة الكاملة، والبطون الضامرة، وقت نزول الملائكة، وقت فتح أبواب الرحمة وأبواب السماء، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [(186) سورة البقرة].
كم هو جميل أن يذكر الدعاء وسط الكلام عن الصيام وأحكامه، أنها آية عجيبة تدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه:
الأول: كأنه - سبحانه وتعالى - يقول: عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك.
الثاني: أن قوله: {وإذا سألك عبادي} يدل على أن العبد له، وقوله: {فإني قريب} يدل على أن الرب للعبد.
الثالث: لم يقل فالعبد مني قريب، بل قال: أنا منه قريب.
فانظر رحمك الله إلى كرم الجواد الذي إذا لم يُسأل يغضب عليه فقال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [(43) سورة الأنعام]، وقال سبحانه: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [(77) سورة الفرقان]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه من لم يسأل الله يغضب عليه)) [رواه الترمذي وهو صحيح].

فالله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يُسأل يغضب

ومن خصائص رمضان أنه شهر مضاعفة الأجر:
إن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب:
منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم. ومنها شرف العامل عند الله وقربه منه وكثرة تقواه. ومنه شرف الزمان كشهر رمضان وعشر ذي الحجة. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عمرة في رمضان تعدل حجة.
قال المناوي: أي تقابلها وتماثلها في الثواب؛ لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت ولا تقوم مقامها في إسقاط الفرض بالإجماع.
قال ابن العربي: هذا صحيح مليح وفضل من الله ونعمة نزلت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها، وفيه أنه يسن إكثار العمرة في رمضان.
ومن خصائص رمضان أن فيه ليلة القدر:
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [(1-4) سورة القدر].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه البخاري].
قال ابن حجر: وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل وأرجاها أوتار العشر وأرجى أوتار العشر عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.
قال شيخ الإسلام: ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان وتكون في الوتر منها لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لتاسعة تبقى لخامسة تبقى لثالثة تبقى.
فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وهكذا. والله أعلم بالصواب.
ومن خصائص رمضان أنه شهر الجود والإحسان:
شهر الكرم والعطاء، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس وأكرم الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال والنفس لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ.
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: ((يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر)) [رواه مسلم].
يقول صفوان بن أميه: لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ.
دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على بلال وعنده صُبْرة من تمر فقال: ((ما هذا يا بلال؟ قال: أعد ذلك لأضيافك، قال: أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم؟ أنفق بلال، ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً)) يقول أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخر شيئاً لغد. نعم هكذا كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم -.

تَعَوّدَ بسط الكف حتى لو أنه *** ثناها القبض لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللا *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سائله

إن الصدقات في رمضان لها عدة خصوصيات:
منها شرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه.
ومنها إعانة الصائمين المحتاجين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم. ولهذا فمن فطّر صائماً كان له مثل أجره.
ومنها أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة، فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
إن هناك علاقة خاصة بين الصيام والصدقة، فهما من موجبات الجنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام)) [رواه الإمام أحمد].
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب المَلِك والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
الصيام جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، والصدقة تجبر النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث.
الصيام والصدقة كفارات لعدد من الأشياء كالأيمان ومحظورات الإحرام وكفارة الوطء في نهار رمضان، بل إن الصوم أول ما فرض كان بالتخيير بين الصيام والإطعام، ثم نسخ ذلك وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره.
فعليكم بالصدقة في رمضان فهو شهركم، خير الناس أنفعهم للناس. الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد ويقرّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها، نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((داووا مرضاكم بالصدقة)) [حديث حسن].
أما علمت يا أخي أن الصدقة تزيد في العمر، وتبقى لك بعد الممات.
يا أخي الصائم ما قدر كسرة تعطيها، أو ما سمعت أن الرب يربيها، فيراها صاحبها كجبل أحد، أفيرغب عن مثل هذا أحد.
إن تطوعات البدن لا تتعدى المتطوع، لكن نفع الصدقة متعدد متنوع، ((من فطر صائم فله مثل أجره، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف و الله يضاعف لمن يشاء)).
مرة أخرى، هذا شهركم، و هذه فرصتكم، فمن لم يتصدق في رمضان فمتى يكون، وكيف ينسى المسلمون بعضهم بعضاً

يموت المسلمون ولا نبالي *** ونهرف بالمكارم والخصالِ
ونحيا العمر أوتاراً وقصفاً *** ونحيا العمر في قيل وقال
وننسى إخوة في الله ذرّت *** بهم كف الزمان على الرمال
تمزقهم نيوب الجوع حتى *** يكاد الشيخ يعثر بالعيال
يشدون البطون على خواء *** ويقتسمون أرغفة الخيال
وناموا في العراء بلا غطاء *** وساروا في العراء بلا نعال
يسيل لعابهم لهفاً وتذوى *** عيونهم على جمر السؤال
وليت جراحهم في الجسم لكن *** جراح النفس أقتل للرجال
يمدون الحبال وليت شعري *** انقطع أم سنمسك بالحبال
نسينا واتقوا يوماً ثقيلا *** به النيران تقذف كالجبال
ونحن المسلمون ننام حتى *** يضيق الدهر بالنوم الخبال
جلسنا والآرائك فاخراتٌ *** وأوجفنا على الفرش الغوالي
ورصفنا البيوت من المرايا *** لتنطق بالبهاء وبالجمال
وفاح العطر وائتلقت جنان *** كأن العمر ليس إلى زوال
ننام على الريال وإن صحونا *** فإن الفجر فاتحة الريال

وأخيراً من خصائص رمضان أنه شهر الجهاد في سبيل الله:
الجهاد في سبيل الله قدر هذه الأمة، ولما تركت الأمة الجهاد ضرب الله عليها الذل فدفعت صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه لها جهادهم.
وواقع الأمة اليوم كما تعلمون هتك لأعراضها، وسلب لأغلى مقدساتها، وذبح لأطفالها، وهدم لثوابت دينها، جزاء من جنس عملها، جزاء تركها لذروة سنام دينها والعيش بعيداً عن الجهاد عيش تافه رخيص، وهكذا تخاف الأمة من ظلها، وتفرق من صداها، تؤدي ضريبة الذل كاملة، تؤديها من نفسها ومن سمعتها ومن اطمئنانها ومن دينها بعد أن باعها عملاء اليهود في كل واد، وهكذا تحول الصقر الإسلامي إلى طائر وديع.
وما نحن فيه أيها الأحبة أمر يحتاج إلى جهاد الأمة بأسرها، فقد تذهب الأيام بداهية وتأتي بداهية أفظع منه، والحماس وحده لا يكفي، وهذا قول شيخ الإسلام - رحمه الله - عندما قال: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [(12) سورة التوبة]، الذين يطعنون في الدين وبآية: {قَاتِلُواْ... الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [(29) سورة التوبة]" انتهى.
كان رمضان شهر الجهاد والفتوحات، امتن الله - عز وجل - على هذه الأمة في هذا الشهر بأحلى انتصاراتها، وعلى مدار التاريخ الإسلامي كان هذا الشهر رمزاً للعطاء والبذل.
لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحاً لها، سمع بقدومه حماس بن قيس الديلي فجلس يصلح سلاحه، فقالت له امرأته: لمن تعدّ هذا؟ قال: لمحمد وأصحابه، فإني أرجو أن أخدمك منهم خادماً فإنكِ إليه محتاجة، قالت: ويحك لا تفعل ولا تقاتل محمداً، والله ليضلنّ هذا عنك لو رأيت محمداً وأصحابه. قال: سترين، وبعدها بقليل أقبل حماس منهزماً حتى أتى بيته فدقه ففتحت امرأته فدخل وقد ذهب روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني ما زلت منتظرة منذ اليوم؟ تسخر به، قال: دعي عنكِ هذا أغلقي بابك، فانه من أغلق بابه فهو آمن، ثم قال شعراً:

وأنت لو شهدتنا بالخندمة *** إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه *** إذ يلحقونا بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة *** ضرباً فلا يُسمع إلا غمغمة
لهم زئير خلفنا وهمهمة *** لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

أما حال الأمة اليوم فيتعجب الشاعر من حالها فيقول:

ما العُجب! قد كُبّت المآذن غيلة *** واغتيل تحت قبابنا الترتيلُ
وإذا عيون الشمس تطبق جفنها *** حول الصباح أينفع القنديلُ؟
ما العُجب! قد باع الرجال سيوفهم *** وتعثرت بالهاربين خيولُ
واستبدلوا طبلاً بصوت مكبر *** فإذا الجهاد ربابة وطبولُ
تحت الكراسي في البلاد جماجم *** وعلى الكراسي في البلاد مغولُ
وإذا الزنادقة استقام لأمرهم *** حكم فغانية الكهوف بتولُ
للجاهلية في البلاد عقيدة *** وبني قريظة محفل وقبيلُ
زمرٌ إذا مرت على بستاننا *** شاصت عروق النخل وهي حمولُ
يدرون أن الوحل فوق جباههم *** ينمو وأن إمامهم ضِلِّيلُ

رابعاً: كمال الصوم وتمامه:
إن تمام الصوم وكماله وكلكم يطلب ذلك، لا يتم إلا بستة أمور فأرعني سمعك جيداً يا عبد الله:
الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يحرم ويذم ويكره، قال الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [(30) سورة النور]، وعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة فقال: ((اصرف بصرك)) [رواه مسلم].
فحذار ثم حذار أخي الصائم من فضول النظر فضلاً عن النظر إلى شيطان العصر الذي أخذ بلب العاقل قبل الساذج، وهو التلفاز. لا تجرح يا أخي صومك، ولا تنقص من أجرك فليس هذا عمل من يطلب لصيامه التمام والكمال.
ماذا يعرض التلفاز؟ يكفي ما فيه من فتن، المارقات الماجنات، السافرات العاصيات، يكفي ما يُثار من غرائز في صدور الرجال، نظرات خائنة، وغمزات جائعة، وتكشف وعري، وتفسخ بذئ، ونزول إلى درجة البهيمية.

لواحظنا تجني ولا علم عندها *** وأنفسنا مأخوذة بالجرائر
ولم أر أغبى من نفوس عفائف *** تصدق أخبار العيون الفواجر
ومن كانت الأجفان حُجّاب قلبه *** أذِنّ على أحشائه بالفواقر

ماذا جنيت يا أخي الصائم في إطلاق نظرك في الصور المعروضة، هل زادت حسناتك، هل زاد إيمانك، هل تعلمت علماً يقربك إلى الجنة ويباعدك عن النار؟ أظن الجواب هو عكس ذلك كله، وأنت أدرى بنفسك من غيرك بك.
اتعظ يا أخي ببعض أخبار من مضى، وإليك هذا الخبر، قال أبو الأديان: كنت مع أستاذي أبي بكر الدقاق، فمّر حدث فنظرت إليه، فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه، فقال: يا بني لتجدّن غِبّها ولو بعد حين، يقول فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي الغِبّ فنمت ليلة وأنا متفكر فيه فأصبحت وقد نسيت القرآن كله.
فهل تريد يا أخي أن تجد حسرة هذه النظرات ولو بعد حين، فتفقد شيء من إيمانك أو حسنتاك عند لقاء ربك، والسبب إطلاق النظر.
فقل للناظرين إلى المشتهى في ديارهم، هذا انموذج من دار قرارهم، فإن استعجل أطفال الهوى لمآلهم، فعدهم قرب الرحيل إلى ديارهم، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم...
الأمر الثاني: إذا أردت تمام الصوم وكماله فعليك بحفظ اللسان عن فضول الكلام والهذيان والخوض في الباطل والمراء والجدال والخصومة والكذب والنميمة والفحش والمراء والسب وبذاءة اللسان والسخرية والاستهزاء، وإلزامه السكوت والصمت وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان.
من أطلق عذبة اللسان، وأهمله وأرخى له العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.
تدبر يا عبد الله في قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [(18) سورة ق].
الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم هو ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة. فأما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة. وأما مالا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والاشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، وبذلك يكون سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقيق الرياء والتصنع، وتزكية النفس، وفضول الكلام، وفصل الخطاب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صمت نجا)) [رواه أحمد والترمذي وغيرهما].
روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم))، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)) [رواه ابن ماجة].
من هو هذا الرجل؟ وماذا فعل؟ قيل هو الذي يفطر على حرام، أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
أما الفرض فقد سقط عنه، والذمة برأت، فلا يعاقب عقاب ترك العبادة بل يعاتب أشد عتاب، حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب.
الأمر الثالث: لمن طلب تمام الصيام: كف السمع عن الإصغاء إلى كل محرم ومكروه، فكل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله - عز وجل - بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [(42) سورة المائدة]. وقال - عز وجل -: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [(63) سورة المائدة].

إذا لم يكن في السمع من تصاون *** وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما *** فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ

فيا من أطلق أذنه لسماع أصوات المزامير، وأصوات الغناء، اتق الله تعالى في نفسك، واتق الله في صومك، فليس هذا هو صوم الصالحين، وليس هذا من يطلب تمام صومه وكماله.

الأمر الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام:
كف اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار والحرام سُمّ مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله ويضرّ كثيره، وقصد الصوم تقليله.
الأمر الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله - عز وجل - من بطن ملئ من حلال.
وكيف يستفاد من الصوم، قهر عدو الله وكسر الشهوة، إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر، ورقة القلب وصفاؤه إنما تكون بترك الشبع.
قال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة.
من أكل كثيراً نام كثيراً، فخسر كثيراً، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد، وإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
الأمر السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً بين الخوف والرجاء. إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين، وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها. مرّ الحسن البصري بقوم وهم يضحكون فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

خامساً: أحكام متفرقة:
من هذه الأحكام أن أركان الصوم أربعة: النية والإمساك عن المفطرات والزمان والصائم.
أما النية فلا بد من تبييتها من الليل.
وأما الإمساك عن المفطرات: فيجب على الصائم أن يمسك عن جميع المفطرات من الأكل والشرب والجماع وغيرها من مفسدات الصوم.
وأما الركن الثالث: وهو الزمان: فيمسك الصائم عن جميع المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس؛ لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [(187) سورة البقرة].
الركن الرابع: الصائم: وهو المسلم العاقل البالغ القادر على الصوم المقيم الخالى من الموانع.
ومن الأحكام: أنه لا يجب صيام شهر رمضان إلا بأحد أمرين: إما برؤية هلاله، أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، ولا طريقة غير ذلك لا من حساب ولا غيره.
ومن الأحكام: أن الذي يجب عليه الصوم ينبغي أن تتوفر فيه شروط ستة:
الأول: أن يكون مسلماً: لأن غير المسلم وإن كان مطالباً بجميع شرائع الإسلام إلا أنها لا تصح منه حتى يسلم.
الشرط الثاني: العقل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم - المجنون حتى يفيق)) [رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي] ويدخل في هذا الشرط صور منها:-
الصورة الأولى: المجنون جنوناً مطبقاً جميع الوقت، فهذا لا يجب عليه الصيام حال فقد العقل ولا القضاء فيما بعد.
الصورة الثانية: من جن وأفاق في بعض النهار، أو كان ينتابه في ساعات معينة، فهذا لا يبطل صيامه، وبالتالي لا يلزمه قضاء ذلك اليوم؛ لأنه أفاق جزءاً منه، يمكنه فيه النية.
الصورة الثالثة: من أغمى عليه جميع النهار فلا يصح منه الصيام بل يتعين عليه القضاء.
الصورة الرابعة : من أغمى عليه جزءاً من النهار فلا قضاء عليه، لأنه أفاق جزءاً منه يمكنه فيه النية.
الصورة الخامسة: النائم، إذا نام جميع النهار يصح صومه لأن النوم لا يزول به الإحساس، بشرط أن تسبقه النية من الليل.
الشرط الثالث: البلوغ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفع القلم عن ثلاثة - وذكر منهم - الصغير حتى يبلغ)).
الشرط الرابع: القدرة على الصيام.
الشرط الخامس: الإقامة:
فالمسافر لا يجب عليه الصيام أداء، بل يجب قضاءً وإن صامه صحّ منه، قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [(184) سورة البقرة].
ولا يجوز له أن يسافر بقصد الفطر، فإن فعل ذلك حرم عليه الفطر، معاملة له بنقيض قصده، ولهذا فقد اتفق الفقهاء رحمهم الله - على جواز الفطر في السفر الواجب كسفر الجهاد والحج والعمرة، وأيضاً جواز الفطر في السفر المباح؛ لأنه يلحق بالواجب لثبوت فطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رجوعه من السفر الواجب ورجوعه مباح.
أما سفر المعصية، ففيه خلاف بين أهل العلم، والصحيح حرمة الفطر فيه، ويأثم الرجل إذا أفطر في سفر المعصية زيادة على إثم المعصية، كالسفر إلى بلاد الكفار بحثاً عن الدعارة والمخدرات والجريمة، وسفر قطاع الطريق واللصوص ومن في حكمهم.
الشرط السادس: السلامة من الموانع:
ويقصد بالموانع هنا: الحيض والنفاس، فالحائض والنفساء لا يجب عليهما الصيام ولا يصح منهما وإنما يتعين القضاء بعدد الأيام التي أفطرتا؛ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [(184) سورة البقرة].
ومن الأحكام أن العلماء نصوا على أن مفسدات الصوم سبعة:
1- الجماع.
2- إنزال المني باختياره من غير جماع.
3- الأكل والشراب عمداً.
4- ما كان بمعنى الأكل والشرب.
5- إخراج الدم بالحجامة.
6- التقيؤ عمداً.
7- خروج دم الحيض والنفاس.

والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...

الأستاذ أبو يوسف
2013-11-20, 01:06 AM
استقبال رمضان عبدالله بن محمد العسكر (http://www.islamdoor.com/a/viewtopic.php?f=14&t=30#p28)

http://youtu.be/CS7UCSbbNCI

إن الزمن يجري بسرعة عجيبة، فهو دائب الحركة ليلا ونهارا، يتساءل الناس من كان بلغ العشرين من عمره، أو الثلاثين، أو أكثر أو أقل يتساءل عن تلك الأيام التي عاشها، والليالي التي قضاها، فلا ينفك يراها ماضيا تركها خلفه، لن يعود إليه مرة أخرى .
ومن رحمة الله عز وجل بعباده، أن جعل لهم مواسم للخير، يكثر أجرها ويعظم فضلها، حتى تتحفز الهمم للعمل فيها، فتنال رضا الله وفضله .
ورمضان أحد أعظم هذه المواسم ، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر يُنادى فيه : يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ولله فيه عتقاء من النار كل ليلة .
لهذا فإن صيامه ركن من أركان الإسلام الخمسة وهو فرض واجب على كل مستطيع ، ومن أفطر فيه عامدا من غير عذر فقد عرض نفسه لسخط الله وعقابه .
جاء في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا لي : اصعد ، حتى إذا كنت في سواء الجبل فإذا أنا بصوت شديد فقلت ما هذه الأصوات ؟ قال : هذا عواء أهل النار ، ثم انطلق بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما فقلت : من هؤلاء ؟ فقيل : هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم "

معنى ضبعي : وسط الذراع ، ومعنى عواء : صراخ ، عراقيبهم : جمع عرقوب وهو الوتر خلف الكعبين ، أشداقهم : جوانب الفم

والمقصود بقوله قبل تحلة صومهم : أي قبل أن يحل لهم ما حرم عليهم أي قبل تمام صومهم .


قال الإمام الذهبي : وعند المؤمنين مقررٌّ أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شر من الزاني ومدمن الخمر ، بل يشكون في إسلامه ، ويظنون به الزندقة والحلال .

حال الناس مع رمضان على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : من صاموا الشهر لأنهه عادة ألفوها وشيئ نشأوا عليه واعتادوه ، فهم يصومون لأن الناس كلهم كذلك ، فتراهم لا يحسون للصيام بلذة ، ولا يتذوقون طعم القيام في لياليه . فصيامهم صيام عادة وليس بصيام عبادة .ولهذا فلا تجد لرمضان أثرا في سلوكهم وحياتهم ، فهم هم قبل رمضان وبعده .

القسم الثاني : من استثقلوا مقدم هذا الشهر ، فتراهم تمر بهم ليالي الشهر وأيامُه كأبطأ ما يكون فتراهم يقضون نهاره بالنوم وليله بالسهر المحرم أما ما يغضب الله ويسخطه .
إن هؤولاء يرون في الصوم قطعا أو حرمانا لهم من بعض ملذاتهم ومتعهم التي اعتادوها طوال العام .
فرمضان سجن إذاً عندهم . نعوذ بالله من الحرمان والخذلان .
إن هؤلاء القوم لا يهمهم إلا إشباع غرائزهم وملء بطونهم قال صلى الله عليه وسلم : " إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة " رواه ابن ماجة عن سلمان رضي الله عنه وحسنه الألباني .

القسم الثالث : من فرحوا بمقدمه فهو كالحبيب الذي طال انتظاره فأطل عليهم بطلعته البهية وخيراته الجليلة . فتراهم يغتنمون كل لحظة من لحظاته بعبادة تقربهم إلى مولاهم
هذا الصنف من الناس تمرّ عليهم أيام هذا الشهر سريعة جدا لا يشعرون بها نظرا لأنهم قد ملأوها بالقربات والباقيات الصالحات . ولهذا فالشهر عندهم كنـز يحزنون لانقضائه ، ويبكون لفراقه .
ومع هذا فليس انقضاء الشهر عندهم يعني انقضاء العبادة وانتهاءها ؛ بل تراهم يحرصون على أن يجعلوا السنة كلها صياماً و قياماً و عبادات وقربات، ويحمون أنفسهم عن جميع الملذات فضلاً عن المحرمات؟ أولئك هم أحباب الله وأولياؤه ، فما مثلنا و مثلهم إلا كما قال الأول :
نزلوا بمكة في قبائل هاشم *** و نزلت بالبيداء أبعد منزل
فنسأل الله رحمته ومغفرته .
إن رمضان لنعمة مسداة لنا من الله جل شأنه فهل عرفنا قدرها ؟
انظر إلى كرامة الله لك كيف أمد في عمرك حتى أدركته !!
تذكر من كان معك فمات وسبقك وأنت بعده ولكن متى ؟!
تذكر المرضى أيضا ممن هم حبيسي الفرش لا يقدرون على الصيام والقيام .


وروى ابن ماجه بسند صحيح كما قال الألباني عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قَدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأْنِ لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال:" من أي ذلك تعجبون ؟ " فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخِر الجنةَ قبله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ " قالوا: بلى، قال :" وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة ؟ " قالوا: بلى، قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم : " فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض "
وقد جاء عن عبد الله بن بسر المازني قال : جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله ! أي الناس خير ؟ قال : طوبى لمن طال عمره ، وحسن عمله . وقال الآخر : أي العمل خير ؟ قال : خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله " والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة .

== وكان عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بقدوم رمضان ويبين لهم فضائله، ليحثهم على الاجتهاد في العمل الصالح، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه :" قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ .
فحري بنا أن نحسن استقبال هذا الوافد الكريم، قبل أن يودعنا ويرتحل عنا، ويكون حجة علينا يوم الدين، فالمحروم من حرم نفسه فقصر في طاعة ربه في هذا الشهر المبارك.
إذا رمضان أتى مقبلا *** فـأقبل فبالخيـر يُسْـَتقبَل
لعلك تخطئـه قابــلا *** وتأتي بعـذر فـلا يُقْبَـل

==ومن السنة أن نقول عند رؤية هلاله : ( اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام )
ومن حسن استقبال رمضان أن نستقبله بالتوبة الصادقة من جميع الذنوب، فهو موسم التائبين، ومن لم يتب فيه فمتى يتوب، ونستقبله كذلك بالعزيمة على مضاعفة الجهد، والاستكثار من الطاعات، من برٍّ وإحسان وقراءة القرآن والصلاة والذكر والاستغفار، وغير ذلك من أنواع الخير، ونستقبله بالدعاء أن يوفقنا الله لصيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيه عنا.
فاحرص - أخي المسلم - على استقبال هذا الوافد الكريم، وأحسن استغلال أيامه ولياليه فيما يقربك من مولاك، وتعرض لنفحات ربك، ولا تكن ممن همه في استقباله تنويع المأكولات والمشروبات، وإضاعة الأوقات والصلوات، فسرعان ما تنقضي الأيام والساعات، وما هي إلا لحظات حتى يقال انتهى رمضان، بعد أن فاز فيه أقوام وخسر آخرون، نسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يوفقنا لصيامه وقيامه، وأن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر، إنه جواد كريم.

الأستاذ أبو يوسف
2013-11-20, 02:35 AM
الصيام في الأمم السابقة




http://www.youtube.com/watch?v=CS7UCSbbNCI&feature=youtu.be






قال الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ ( البقرة: 183 ).
يرجع تشريع الصيام في الدين إلى تعبد الله به لعباده وفرضه عليهم، لم تخل من ذلك شريعة شرعها الله لهم، ويرجع أهل التاريخ بداية تشريع هذه الفريضة إلى عهد نوح النبي عليه السلام فيقولون إنه أول من صام رمضان لما خرج عليه السلام من السفينة، ومن المرجح أن فريضة الصيام قد عرفت قبل هذا التاريخ لما روي عن مجاهد بن جبر المفسر التابعي المعروف وأحد النجباء من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما أن الله عز وجل كتب صوم رمضان على كل أمة ومعلوم أنه كان قبل نوح عليه السلام أمم وأجيال شغلت الزمان منذ نبي الله آدم عليه السلام [1].
ويختص الصيام من بين الفرائض والشعائر الدينية المتعبد بها بشرف إضافته إلى الله تعالى ونسبته إليه، وتفرده بعلم مقدار ثوابه عظم فضله لبعده عن الرياء والشهرة وخفائه عن الناس، وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة التي ذكرها الأئمة ومنها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل قال: " يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " [2] وإنما خص الصوم بذلك وإن كانت العبادات كلها لله سبحانه وتعالى، لما أشرنا إليه من مباينة الصوم سائر العبادات والشعائر في كونه سرا بين العبد وربه لا يظهر إلا له فكان لخفائه عن الناس، بعيدا عن شبهة الرياء والسمعة، فاستحق بإخلاص صاحبه لله اختصاصه به وإضافته إليه دون سائر العبادات.
والمتتبع لفرائض الله على عباده وما تعبدهم به يلمس وجوهها من المنافع والمصالح التي تنصلح بها أحوال العباد ويتحقق بها فوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ففي الإمساك عن الأكل والشرب تسكين للنفس وقهر لشهواتها وكسر لسورتها في الفضول المتعلقة بالجوارح، وإرجاع لها عن الاسترسال في اللذات والشهوات، وسمو بروح الإخلاص والتحلي بالفضائل، والتعود على الصبر والثبات على المكاره واستشعار النفس الحاجة الدائمة إلى ربها وخالقها، أما إذا استرسل المرء في أكله وشربه، فإنه يفقد كثيرا من هذه المعاني، حيث تنبسط نفسه إلى الشهوات وتضعف إرادتها ومقاومتها أمام المغريات، و لهذا جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هادية ومرشدة في هذا الباب، حيث قال فيما يرويه عن ربه: " الصيام جنة، يترك أي أحدكم طعامه وشرابه وشهواته من أجلي " [3] وقال: " من استطاع الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " [4].
وفي الصوم إعانة على إنفاذ الفكر وإنفاذ البصيرة وصفاء القلب ورقة الشعور والإدراك وتزكية النفس وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وبالصوم يطب الجسم ويتخلص من سمومه وأدوائه إلى غير ذلك من الفوائد الجليلة والكثيرة التي تؤدي في عمومها إلى تقوى الله عز وجل قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ ( البقرة: 183 )، وقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " [5] و يقول ابن القيم مبرزا حكمة الصوم و المقصود منه: " المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به في حياتها الأبدية فهو لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمتقين " [6].

كيفية صيام السابقين:
تلك كانت حكمة الصوم والأهداف المقصودة منه كما كشفت عنها آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي الأصل في مشروعية الصوم وتعبد الله لسائر الأمم به، ومن الملاحظ أن آية سورة البقرة سالفة الذكر لم تشر في وضوح إلى كيفية صيام الأمم السابقة أو مقدار هذا الصوم وزمانه وإن كانت قد أشارت في إجمال إلى فرض الله له على السابقين، وقد فرض الله على الأمة الإسلامية على نحو من فرضيته له على من سبقها من الأمم، وهكذا لا يدل ظاهر الآية القرآنية على أكثر من فريضة الصيام ووجوبه، إذ ليس شيء في ألفاظ الوجوب أصرح من قول الله تعالى ] كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [ (البقرة: 183) فقد كان الصوم مكتوبا ومفروضا عليهم، ومثل كتابته وفريضته عليهم كتب وفرض على المسلمين، أما أحاديث الباب، فتدل - كما سنعرف قريبا - على مشروعية الصيام للأمة الإسلامية.
وللأمم السابقة من لدن آدم عليه السلام، وأن لأمتنا الإسلامية الأسوة والقدوة في شريعة الصيام بالأمم المتقدمة حيث لم يكن تشريعه خاصا بها دون من سبقها.
ومن هنا فقد توقف الفقهاء والمفسرون طويلا أمام هذه المسألة ليكشفوا لنا عناصر الشبه بين صيامنا وصيام من كانوا قبلنا تلك العناصر التي عناها الله بقوله ] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [ ( البقرة: 183) فهل يقف التشبيه عند حدود أصل الفريضة والوجوب أم يتعداها إلى زمن الصوم وقدره ووصفه أو كيفيته؟
وبعبارة أخرى: إذا كان الصيام عبادة قديمة فهل كان مفروضا واجبا فحسب وجوبه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم دونما نظر إلى وجوه أخرى كزمنه وقدره وكيفيته أم أنه كان في وقت محدد وشهر مخصوص وكيفية محددة ؟ وإذا كان تشريع الصيام لهذه الأمة على هذا النحو الأخير فهل بقي تشريع الله لهم على ذلك النحو أم غير فيه السابقون وبدلوا من عند أنفسهم ؟
ويرى ابن العربي أن التشبيه في الآية الكريمة مقطوع به في الفريضة وأصل الوجوب ولكنه محتمل في غير هذا من الزمن والقدر والكيفية، فقد يحتملها جميعا وقد يحتمل بعضا منها دون غيرها، ثم استشهد لكل من هذه الاحتمالات الثلاثة في التشبيه من الآثار والأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك [7] أما ما رآه ابن العربي مقطوعا به في الشبه بين الصومين وهو أصل الوجوب فقد فاته الاستشهاد له وهو ما نجده عند غيره فيما روي عن ابن عباس و معاذ بن جبل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا عن عطاء و الضحاك من التابعين أن الصيام فرض علينا أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام، وزاد بعضهم يوم عاشوراء، قالوا: ولم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أول الإسلام حتى نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان، قال معاذ بل كان نسخه بأيام معدودات ثم نسخه الأيام المعدودات بشهر رمضان، ومما قالوه هنا أن صوم آدم عليه السلام كان أيام البيض وصوم موسى وقومه كان يوم عاشوراء، وكان على كل أمة صوم والتشبيه لا يقتضي التسوية من كل وجه، وعلى هذا فالتشبيه على أصل الوجوب لا في القدر الواجب ولا في صفته ولا في زمنه.
ويمكن الاستئناس لهذا الرأي بما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: " لما قدم المدينة وجد الناس يصومون عاشوراء فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى عليه السلام وأغرق فيه فرعون، فقال: نحن أحق موسى منكم فصامه وأمر بصيامه "، فكان هو الفريضة حتى نزل رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه من شاء صامه ومن شاء أفطره " [8].
ولعل ما يفيد هنا ويقطع بأن التشبيه بين الصومين واقع على أصل الفريضة دونما اعتبار للقدر والكيفية والزمن وذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل والذي تبين منه أحوال الصلاة والصوم وتدرج الشريعة الإسلامية في إرسال أحكامها وسبب نزول آيات الصيام قال:
أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال... إلى أن قال: أما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام فصام سبعة عشر شهرا من ربيع الأول إلى رمضان أي على ذلك وصام يوم عاشوراء.
ثم إن الله عز وجل فرض عليه الصيام فأنزل الله ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ ( البقرة: 183 ) حتى قوله: ] وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [ ( البقرة: 184 ) قال: فكان من شاء صام، و من شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى: ] شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ ( البقرة: 185 ) قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان.
قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا حتى جهدوا فأنزل الله عز وجل ] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [ ( البقرة: 187 ) [8].
ويرى جماعة من التابعين منهم الشعبي و قتادة و مجاهد و الحسن أن التشبيه بين الصومين قائم من جميع الوجوه متضمن لأصل الفريضة وقدرها ووقتها، وزاد السدي و أبو العالية و الربيع وقوع التشبيه على صفة الصوم أيضا الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، قال القرطبي في جامعه عن رأي هؤلاء وما قالوه: عن الشعبي وقتادة وغيرهمنا أن الله تعالى كتب على قوم موسى و عيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع، واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية، وقال مجاهد: كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة.
قال القرطبي: وفيه حديث يدل على صحته عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فه فقالوا لئن شفاه الله لنزيد سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا: لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين.
وقيل إنهم أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي، قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة و الحسن البصري والسدي، قلت: ولهذا والله أعلم كره الآن الصوم يوم الشك قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فلذلك قوله تعالى ] كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [ ( البقرة: 183 ) [9].
وعند ابن كثير من رواية عباد بن منصور عن الحسن قال: والله لقد كتب الله الصيام على كل أمة خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا، وعن ابن عمر مرفوعا قال: " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم ".
ولعل أوضح رواية في ذلك التغيير والتبديل الذي وقع من النصارى ما أخرجه الطبري بسنده عن السدي و نقله ( صاحب الدر المنثور ) في قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [ ( البقرة: 183 ) قال: أما الذين من قبلنا فالنصارى كتب عليهم رمضان وكتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ولا ينكحوا النساء شهر رمضان، فاشتد على النصارى صيام رمضان وجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا الصيام في الفصل بين الشتاء والصيف وقالوا نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعن فجعلوا صيامهم خمسين [10].
ويشبه صوم النصارى وما فرض عليهم قبل تبديلهم صوم المسلمين في حالهم الثاني الذي كانوا عليه قبل الحال الأخير وهو ما وردت الإشارة إليه قبل في حديث معاذ الذي أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، ولهذا قال السدي و أبو العالية و الربيع إن التشبيه بين الصومين في الآية كما هو واقع على القدر والزمن فهو واقع على الكيفية والصفة أيضا، وقد كان على النصارى الامتناع من الأكل والشرب والنكاح فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام منهم، وكذلك كان أمر المسلمين أول الإسلام إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى: ] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ (البقرة: 187)
بعد ما حدث من أمر أبي قيس بن صرمة و عمر بن الخطاب فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر وكان هذا تخفيفا من الله على المسلمين وخروجا بهم مما ضيقوا على أنفسهم بتشريع ميسر لا كما خرج النصارى بتبديلهم وتحريفهم شريعة الله وقدرها وكيفيتها.
والروايات الدالة على ذلك كثيرة منها ما جاء في صحيح البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وفي رواية كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام ؟ قالت: لا، ولكن انطلق فاطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ ( البقرة: 187 ) ففرحوا لما أحل الله لهم ما كان محرما ونزلت: ] وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْر [ ( البقرة: 187 ) [11].
وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى ] عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ [ ( البقرة: 187 )
وذكر الطبري: أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها، وصنع كعب بن مالك مثله فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتذر إلى الله وإليك فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي: " لم تكن حقيقا بذلك يا عمر " فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن.
وهكذا نجد أن هذا الحال من صوم المسلمين الذي نسخه الله وأبدلهم به حلا للطعام والشراب والنساء حتى الفجر كان هو نفسه الحال والكيفية التي شرعها الله لمن قبلنا في صومهم فأحالوا شرع الله وغيروا وبدلوا، وخفف الله على المسلمين وأبدلهم بهذا الحال حالا آخر يسر لهم فيه من أمرهم، وبذلك تكون المشابهة بين صوم المسلمين وصوم الأمم السابقة التي جاءت في قوله تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ ( البقرة: 183 ) قائمة من جميع وجوه الصوم في قدره وزمنه ووصفه أو كيفيته.
________________________
(1) راجع الجامع لأحكام القرآن - القرطبي 2/274، 290 دار الكتاب العربي 1387ه - 1967م.
(2) أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة في كتاب الصيام - باب فضل الصيام، وهو عنده من طرق أخرى بألفاظ مختلفة، راجع صحيح مسلم بشرح النووي 8/29-31 دار الفكر 1403ه-1983م.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب فضل الصوم عن أبي هريرة راجع فتح الباري 4/103.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب الصوم لمن خاف على نفسه الع**ة عن ابن مسعود راجع فتح الباري 4/119، وفي حاشية الروض المربع " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالصوم بالجوع " 3/345.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب من لم يدع قول الزور عن أبي هريرة راجع فتح الباري 4/116.
(6) زاد المعاد - ابن القيم الجوزية 1/152.
(7) راجع أحكام القرآن - ابن العربي 1/74-75.
(8) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب صيام يوم عاشوراء عن ابن عباس راجع فتح الباري 4/244.
(9) أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل راجع الفتح الرباني كتاب الصيام باب أحوال الصيام 9/239-244.
(10) راجع الجامع لأحكام القرآن - القرطبي 2/213.
(11) راجع تفسير القرآن العظيم -ابن كثير الدمشقي 1/213.

الأستاذ أبو يوسف
2013-11-20, 03:19 AM
للصائم فرحتان

ولما لا يفرح الصائم بطاعة ربه ..
لما لا يفرح الصائم وهو يتقرب إلى الله بركن من أركان الإسلام .. وقد أعانه الله عليه حين حرم منه آخرون إما لعذر أو ضلال.
لم لا يفرح الصائم وثواب الصوم لا يعلمه إلا الله ..
جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به". والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).رواه البخاري ومسلم.
غريب الحديث:
قوله : (جُنَّة) أي وقاية وستر يقي الصائم من اللغو والرفث. ويحتمل أنه وقاية أيضاً لصاحبه من النار
قوله: (فلا يرفُث) المراد بالرفث هنا الكلام الفاحش. وقد يطلق على الجماع ومقدماته. وفي رواية: (ولا يجهل) أي لا يفعل شيئا من أفعال الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك.
قوله: (ولا يصخب) الصخب هو الرجة واضطراب الأصوات للخصام.
قوله: (لخلُوف) الخلوف تغير رائحة الفم.
قوله: (الزور والعمل به) المراد بالزور الكذب. نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار(4/584). للشوكاني. الناشر: إدارة الطباعة المنيرية.
فضائل الصيام المستفادة من الحديث مع بعض الفوائد الأخرى:
1. أن الله اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال؛ وذلك لشرفه عنده، ومحبته له، وظهور الإخلاص له سبحانه فيه؛ لأنه سر بين العبد وبين ربه، لا يطَّلع عليه إلا الله, فإن الصائم يكون في الموضع الخالي من الناس متمكِّنا من تناول ما حرم الله عليه بالصيام فلا يتناوله؛ لأنه يعلم أن له ربا يطَّلِع عليه في خلوته, وقد حرم عليه ذلك فيتركه لله خوفاً من عقابه ورغبة في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر الله له هذا الإخلاص، واختص صيامه لنفسه من بين سائر أعماله؛ ولهذا قال: ((يدع شهوته وطعامه من أجلي))، وتظهر فائدة هذا الاختصاص يوم القيامة كما قال سفيان بن عُيَيْنة -رحمه الله-: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى إذا لم يبقَ إلا الصوم يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم، ويدخله الجنة بالصوم".

2. أن الله قال في الصوم: ((وأنا أجزي به)), فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة, أما الصوم فإن الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد, وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين. والعطيَّة بقدر معطيها فيكون أجر الصائم عظيما كثيرا بلا حساب, والصيام صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله, وصبر على أقدار الله المؤلمة من الجوع والعطش وضعف البدن والنفس, فقد اجتمعت فيه أنواع الصبر الثلاثة، وتحقَّقَ أن يكون الصائم من الصابرين, وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. سورة الزمر (10)

3. أن الصوم جُنَّة، أي: وقاية وستر يقي الصائم من اللغو والرفث, ولذلك قال: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب))، ويقيه أيضا من النار, ولذلك رُوي عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ((الصيام جنة يَسْتَجِنُّ بها العبد من النار)). رواه أحمد، وقال الألباني "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (981).

4. أن خَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأنها من آثار الصيام فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له, وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله حتى إن الشيء المكروه المستخْبَث عند الناس يكون محبوبا عند الله وطيبا لكونه نشأ عن طاعته بالصيام.

5. أن للصائم فرحتين: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه, أما فرحه عند فطره فيفرح بما أنعم الله عليه من القيام بعبادة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال الصالحة, وكم من أناس حرموه فلم يصوموا, ويفرح بما أباح الله له من الطعام والشراب والنكاح الذي كان مُحَرَّما عليه حال الصوم. وأما فرحه عند لقاء ربه فيفرح بصومه حين يجد جزاءه عند الله -تعالى- مُوَفَّرا كاملا في وقت هو أحوج ما يكون إليه حين يقال: أين الصائمون ليدخلوا الجنة من باب الريَّان الذي لا يدخله أحد غيرهم؟

6. في هذا الحديث إرشاد للصائم إذا سابَّه أحد أو قاتله أن لا يقابله بالمثل لئلا يزداد السباب والقتال, وأن لا يضعف أمامه بالسكوت، بل يخبره بأنه صائم إشارة ليعلمه أنه لن يقابله بالمثل احتراما للصوم لا عجزا عن الأخذ بالثأر, وحينئذ ينقطع السباب والقتال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.. سورة فصلت (34 – 35).

7. ومن فضائل الصوم في رمضان أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم.

8. أن الصوم يشفع لصاحبه يوم القيامة؛ فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه))قال:(فيشفعان). رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(984).

9. أن على الصائم إذا أراد حيازة هذه الفضائل أن يتأدب بآداب الصيام، ومنها: فعل المأمورات، وترك المنهيات، ومن تلك المنهيات ما جاء في الحديث: ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)). وقد سبق بيان معنى ذلك في غريب الحديث.

10. أن الأجر يضاعف بأسباب جاء الشرع ببيانها، قد تكون هذه الأسباب مكانية وقد تكون زمانية، وقد تكون بحسب الأشخاص، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن رجب: "اعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم، ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)). أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. ومنها: شرف الزمان كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة؛ فعمرة في رمضان تعدل حجة، أو حجة مع الرسول. وقد يضاعف الثواب بأسباب أخر؛ منها: شرف العامل عند الله، وقربه منه، وكثرة تقواه، كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم، وأعطوا كفلين من الأجر.

11. أن الصائمين على طبقتين: إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله -تعالى- يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى يقول : { إنا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} سورة الكهف(30). ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح.. فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من نعيم دائم لا يحول ولا يزول، قال الله -تعالى-: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} سورة الحاقة(24). قال مجاهد وغيره: "نزلت في الصائمين".
وفي الصحيحين عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم)). وفي رواية: ((فإذا دخلوا أغلق)). وفي رواية: ((من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا)). الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه، وفرحه برؤيته:
أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب

والعارفون وأهل الإنس صومهـم صون القلوب عن الأغيار والحجب

من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت.

وقد صمت عن لذات دهـري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

نسأل الله العلي القدير أن يتقبل توبتنا، وأن يتولى أمرنا، وأن يختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وأن يلهمنا رشدنا.
اللهم أفرحنا بإتمام الصيام والقيام، ومحو الذنوب والآثام، ودخول جنتك دار السلام، والنظر إلى وجهك يا ذا الجلال والإكرام.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.