الأستاذ أبو يوسف
2013-09-14, 09:19 PM
الغلو في الدين معناه وبيان صوره وأسبابه وخطره
د. عبد الله الكنهان والشيخ محمد الفيفي
مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
أيها الإخوة والأخوات ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وحياكم الله في هذا اللقاء الطيب المبارك ، الذي يجمعنا بصاحبي الفضيلة ؛ صاحب الفضيلة الدكتور عبد الله بن صالح الكنهان ،الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . وصاحب الفضيلة الشيخ محمد بن أحمد الفيفي ،الداعية بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالرياض .
ولا شك أن موضوع هذا اللقاء يحتاج المجتمع بصورة كبيرة لبيانه ، وتشتد الحاجة لكثرة مَن تبنَّى هذا الفكر : فكر "الغلو في الدين" لبيان معنى الغلو وتجليته وأسبابه ، والأسباب التي تجعل الإنسان ينجو من هذا الفكر الخطير .
نبتدئ حديثنا أيها الأحبة مع فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح الكنهان ، عن بيان المراد الغلو في الدين ، ويبين لنا الأدلة الشرعية التي تحذر من هذا الفكر ، فليتفضل أثابه الله وسدده.
حديث فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :
الغلو عند أهل الكتاب :
أيها الإخوة ، هذه الظاهرة التي سنتحدث عنها - إن شاء الله - في هذه الليلة ظاهرة قديمة ، وجدت قبل الإسلام ، فقد قص الله - عز وجل - علينا في كتابه الكريم ما كان من أهل الكتاب من غلو ، على سبيل التحذير من سلوك مسالكهم ، وفعل مثلما فعلوا . وقد قص الله - عز وجل - علينا عن النصارى ما وقع منهم من غلوٍّ في عيسى ابن مريم ، كما في قوله سبحانه : ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [سورة التوبة : الآية 31] . فقد غلوا في أحبارهم ، وغلوا في رهبانهم ، فكانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه ، وجعلوا عيسى ابن مريم إلهًا مع الله - جل وعلا ، وهذا من الغلو .
الغلو عن المسلمين :
وهذه الأمة ليست بمنأًى عن الغلو ، ولذا قص الله - عز وجل - علينا هذه الأخبار ؛ لكي نحذر أن نسلك مسلكهم ، لما جاء الإسلام وجدت أيضًا بعض بوادر الغلو ، لا سيما في العبادة ، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبادر إلى علاجها ، ويحذر من الغلو ، ويرشد إلى اتباع السنة ، وتجنب طرق أهل الغلو .
وفي عهد الصحابة - رضي الله عنهم - وبعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهرت فرقٌ غلت في أمور اعتقادية ، فظهرت الخوارج ، وظهرت القدرية ، وهكذا كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم علماء الأمة حين ذاك ، كانوا يتصدون لهذه الظاهرة ، فيبينون بطلان هذا المسلك ، ويحذرون من مَغبة الغلو ، ويرشدون الناس إلى الطريقة الصحيحة الوسط ، التي جاءت بها شريعة الإسلام .
الغلو في العصر الحالي :
واستمر مسلسل الغلو في تاريخ الأمة ، فلم يسلم عصر من العصور من وجود فِرق من فرق الغلاة ، وكان علماء الأمة يتصدون لمثل هذه الظواهر ، فيبينون حكم الشرع فيها ؛ إبراءً للذمة ، وتحذيرًا من تلك المسالك المردية ، وهذا هو دور العلماء في كل زمان ومكان .
ولم يكن عصرنا - أيها الإخوة - بمنأًى عن هذه الظاهرة ، فقد ظهرت مظاهر عدة من مظاهر الغلو ، وإن ما نشهده ، مما اكتوت به هذه البلاد من أحداثٍ وتفجيرات وعنف وتكفير ، كل هذا من مظاهر الغلو ، التي حذرنا منها الإسلام ، وحذرتنا منها نصوص الوحيين .
ولهذا - أيها الإخوة - كان من الواجب على أهل العلم أن يبينوا أخطار هذه الظاهرة ، ويبينوا الأدلة الشرعية على تحريم سلوك مثل هذه المسالك ؛ ليكون الناس على بصيرة من أمرهم ، ومن هنا كان طرح هذا الموضوع .
وسيكون حديثي في البداية عن النقطة الأولى ، أو العنصر الأول ، وهو : معنى الغلو . قبل أن ندخل في بيان التحذير من الغلو ، وأسبابه وعلاجه ، إلى آخره .
تعريف الغلو :
لا بد أن نتعرف على المراد بالغلو ، ذكر أهل اللغة أن الغلو في اللغة هو بمعنى مجاوزة الحد ، فكل مَن جاوز الحد فهو غالٍ . وذكر بعض أهل العلم أن تعريفه شرعًا هو تجاوز الحد الشرعي بالزيادة ، اعتقادًا أو عملاً ، وتجاوز الحد الشرعي بالزيادة على ما جاءت به الشريعة ، سواء في الاعتقاد أم في العمل .
أنواع الغلو :
ومن هنا - أيها الإخوة - يتبين لنا أن للغلو نوعين :
النوع الأول :
•الغلو الاعتقادي : ومن أمثلته الغلو في الأنبياء والصالحين ، كمن يغلو في نبي من الأنبياء ، فيستغيث به ، ويسأله من دون الله - عز وجل - أو يدعي فيه أنه يعلم الغيب ، أو غير ذلك ، مما هو من خصائص المولى تبارك وتعالى . ومن ذلك أيضا الغلو في الصالحين ، وفي قبور الصالحين ، وسؤالهم تفريج الكربات ، وإجابة الدعوات ، فهذا أيضًا من الغلو الاعتقادي . ومن ذلك أيضًا الغلو في التكفير بغير برهان من الله - عز وجل - ولا من رسوله - صلى الله عليه وسلم . فهذه من أمثلة الغلو الاعتقادي .
وقد ثبت في صحيح البخاري ، من حديث أبي سعيد مرفوعًا ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ ( 1) هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ » ( 2) .
وهاتان الصفتان اللتان ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - هما صفتان مشتركتان ، توجدان في كثير من فرق الغلاة على مدار التاريخ ، فهم قليلو العلم ، جاهلون بالشرع . ولهذا حتى لو قرءوا القرآن فإنه لا يجاوز حناجرهم ، بمعنى أنهم يقرءون بدون تدبر ، وبدون فهم ، ولهذا لا يهتدون بهدي القرآن ، ولا ينتفعون بمواعظه ، والصفة الثانية أنهم يقعون في استباحة الدماء ، فهم : " يدعون أهل الأوثان ، ويقتلون أهل الإسلام " . وذلك نتيجة لتكفيرهم لأولئك القوم ، فهم يكفرون المسلمين ، ثم ينطلقون من ذلك الاعتبار إلى استباحة دمائهم .
النوع الثاني :
•الغلو العملي : والمراد بالغلو العملي هو : الزيادة في العبادة . فقد يزيد المسلم في عبادة من العبادات على الحد الذي وضعه الشرع ؛ طلبًا للتقرب إلى الله - عز وجل - فيشق على نفسه ، مثلاً كالشخص الذي يصوم ولا يفطر ، أو يقوم الليل كله ولا يرقد ، أو يتعبد لله - عز وجل - باعتزال النساء ، واعتزال الزوجات .
وهذه الظاهرة وجدت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس ، في قصة الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوا عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنهم تقالوه ، ثم قالوا : وأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ثم قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد . وقال الآخر : وأما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر . وقال الثالث : وأما أنا فأعتزل النساء . فلما جاء رسول الهدى - صلوات ربي وسلامه عليه - وعلم بما قالوا بيَّن لهم المنهج الصحيح ، وأنكر عليهم هذا الانحراف عن السنة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « أَمَا إِنِّي أَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » ( 3) .
وإن النوع الأول - وهو الغلو في الاعتقاد - أشد خطرًا من النوع الثاني ، وإن كان كلاهما فيه خطر على الأمة ؛ لأن النوع الثاني يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين ، ومنه نشأت الفرق الضالة التي انحرفت عن جادة الصواب ، واستباحت دماء المسلمين وأموالهم ، وأوقعت في بلاد الإسلام الفتنة .
المرجع لمعرفة ما يكون فيه الغلو :
فما المرجع فيما يُعد غلوًّا ؛ حتى تتبين لنا حقيقة الغلو ؟ لا بد من مرجع يتبين من خلاله ما يصح أن يسمى غلوًّا ، وما لا يصح أن يسمى كذلك .
المرجع في هذا - أيها الإخوة - هو الكتاب والسُّنة ، وشريعة رب العالمين ؛ لأننا ذكرنا أن تعريف الغلو هو تجاوز الحد الشرعي ، يعني الحد الذي وضعه الشرع ، فحتى نعرف أن فعلاً من الأفعال ، أو اعتقادًا من الاعتقادات هو غلو ، لا بد أن نتبين حدود الشرع في هذا الجانب . فإن كان ذلكم الفعل ، أو ذلك الاعتقاد ، متجاوزًا لحدود الشرع فهو غلو ، وإن كان في حدود الشرع فليس غلوًّا ، وإن سماه مَن سماه غلوا .
لأننا نجد بعض الناس ممَّن قل علمهم ، أو وجدت عندهم نيات غير صالحة ، أنهم يصفون بعض ما هو من الدين بالغلو ، فتجد من يصف الحجاب - حجاب المرأة المسلمة - بالغلو ، وتجد من يصف تحريم المعازف التي جاءت النصوص بتحريمها بالغلو ، وتجد من يجعل إعفاء اللحى نوعًا من الغلو . وكل هذه الأمور جاءت بها نصوص الشريعة ، فهي من الإسلام ، وليست من الغلو في شيء .
مقابل الغلو :
حتى يتضح لنا حقيقة الغلو فلا بد أن نعرف ما مقابل الغلو ، مقابل الغلو في الطرف الآخر هو الجفاء ، فكما قال بعض السلف : " دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه " . فدين الله وسَط بين الغالي فيه ، وبين الجافي عنه . فالطرف الآخر هو الجفاء ، وهو التفريط ، والغلو هو الإفراط ، وكلا الأمرين مذموم .
فالشريعة جاءت بذم التفريط ، وبذم الإفراط ، وجاءت بالعدل ، وسلوك منهج الوسط في الاعتقاد وفي العمل . لهذا يقول ابن القيم - رحمه الله – : " ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان ؛ إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه " ( 4) . فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له ، فالغالي فيه مضيع ، هذا بتقصيره عن الحد ، وهذا بتجاوزه الحد .
لكن الغلو - أيها الإخوة - أشد خطرًا من الجفاء ، وإن كان كلاهما انحراف من ناحية أن الغلو يفرق الأمة ، ويفتح الطريق إلى البدع على مصراعيه ، وتستباح به الدماء ، والأموال المعصومة .
ثم إن الغالي يظن أنه على حق في كثير من الأحوال ، فيستمر في غيه ، وفي غلوه ، بخلاف العاصي المفرط ، الذي يعلم تقصيره ، فهو أرجى إلى أن يرجع ويئوب ويتوب إلى الله - جل وعلا .
الأدلة على التحذير من الغلو :
القضية الثانية التي سأتحدث عنها هي الأدلة على التحذير من الغلو ، فقد تبين فيما مضى حقيقة الغلو ، وما يتعلق به من أنواع . وسأنتقل الآن إلى ذكر بعض الأدلة الشرعية في التحذير من الغلو ومسالكه .
فقد قص الله - عز وجل - علينا - كما أشرت فيما مضى - ألوانًا من غلو أهل الكتابين ، وما ذاك إلا لكي تتعظ هذه الأمة ، وتتجنب سلوك مسالك الغلو .
الأدلة من القرآن :
الدليل الأول :
فمن ذلك قوله سبحانه : ﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ ﴾ [سورة النساء : الآية 171] .
الدليل الثاني :
ويقول - جل وعلا - في الآية الأخرى : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 77] .
الأدلة من السنة المطهرة :
الدليل الأول :
وأما من السُّنة ؛ فقد جاءت أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحذر من الغلو والتنطع ، منها حديث عبد الله بن مسعود ؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم : « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ » ( 5) .
والمتنطع - كما يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم - هو المتعمق في الشيء ، المغالي فيه ، المجاوز حدَّ الشرع فيه ، سواء أكان قولاً أم فعلاً أم اعتقادًا .
الدليل الثاني :
ومن الأدلة أيضا التي تحذر الأمة من الغلو حديث ابن عباس - رضي الله عنهما – قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداةَ جمع - يعني صبيحة ليلة مزدلفة ، وهي ليلة يوم النحر : « هَاتِ، الْقُطْ لِي » . فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ( 6) ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ : « بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ » .يعني : فارموا . « وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ » (7 ) .
هذا هو الدليل ، وإن كان جاء على سبب خاص ، وهو قضية الغلو في حصى الجمار ؛ لأن بعض الناس قد يظن أن كبر حجم الحصى من الدين ؛ لأن الحصى كلما كان أكبر كان أقوى وأوقع أثرًا . فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع السنة بقوله : « بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ » أي : فارموا بما يقارب هذا الحجم ، ولا تحكموا عقولكم ، بل اتبعوا سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وإياكم والغلو في الدين .
لكن كما يقول العلماء : العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب . ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه رحمة الله - بعد أن أورد هذا الحديث : " عام في جميع أنواع الغلو ؛ في الاعتقاد والأعمال " ( 8) .
الدليل الثالث :
من الأدلة التي تحذر الأمة من الغلو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ » ( 9) . ويشاد بمعني : يغالب . فمَن غالب الدين ، فشق على نفسه ، فسيكون منتهى أمره إلى الانقطاع ويُغلَب ، كما قال - صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر - : « عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا » (10 ) .
الدليل الرابع :
ومن النصوص التي تحذر ، أو تفيد التحذير من الغلو النصوص الواردة في مدح ضد الغلو ، فقد جاءت النصوص الشرعية ببيان يُسر الإسلام وسهولته ، وأنه جاء برفع الحرج ، وجاءت الشريعة تحث على الرفق ، وتحث على الاعتدال ، وعلى الوسطية . هذه الأمور كلها تنافي الغلو ، فالحث عليها ، وإرشاد الأمة إليها ، هو في الواقع أيضًا تحذير من ضدها ، وهو الغلو .
ومن ذلك قوله جل وعلا : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 185] . وقوله سبحانه : ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [سورة الحج : الآية 78] . وقوله سبحانه : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [سورة البقرة : الآية 143] . وسطًا يعني : عدولاً خيارًا .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ » ( 11) . هذه بعض الأدلة التي تحذر من الغلو وأكتفي بهذا القدر .
حديث الشيخ محمد الفيفي
مظاهر الغلو في الدين في عصرنا الحالي :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وإمام المتقين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
مما يحسن الكلام حوله في هذه الندوة الحديث الكلام عن بعض مظاهر الغلو ، وهي - وإن كانت كثيرة - فسوف نقتصر على أهمها ، مما يتسع ويسمح به الوقت .
من مظاهر الغلو :
•الغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين .
•الغلو في المتبوعين والأحزاب والجماعات .
•الغلو في إنكار المنكر .
•الغلو في الجهاد .
•الغلو في الولاء والبراء ، وغير ذلك من الأنواع .
الغلو في الأنبياء والأولياء الصالحين :
لقد خلق الله - عز وجل - الثقلين لحكمة واحدة ؛ وهي أن يعبدوه وحده ، كما قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات : الآية 56] . والعبادة اسم جامع لكل ما يحب الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر والسجود ، وغير ذلك .
ومَن صرف شيئًا من العبادة لغير الله فقد جعله شريكا لله تعالى ، فإن كل ما أمر الله أن يصرف له فلا يجوز صرفه لغيره ، فإن فعل فقد وقع في التنديد ، الذي هو أعظم الكبائر .
فقد سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم ؟ فقال : « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ » (12) . متفق عليه . وسواء أكان هذا الشريك مَلِكًا أم نبيًّا أم وليًّا أم شجرًا أم حجرًا أو كوكبًا ؛ لأن الله - عز وجل - يقول : ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [سورة النساء : الآية 36] . ويقول جل وعلا : ﴿ وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [سورة الجن : الآية 18] .
وقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقوام مختلفي المشارب ، متبايني الاعتقادات ، فمنهم مَن يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأنبياء ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ، ومنهم من يعبد الصالحين . فلم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم ، بل حَكم عليهم جميعًا بالكفر والشرك ، واستحل بذلك دمائهم وأموالهم ، وسبي نسائهم ، فدل على أن حكم الجميع واحد ، ولما كان الشرك أعظم الذنوب ؛ إذ هو الذنب الذي لا يغفر أبدًا ، لمن لقي الله عليه من غير توبة ، كما قال - جل وعلا - : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾ [سورة النساء : الآية 48] .
كما أن توحيد الله تعالى في العبادة أعظم الواجبات ، فلذلك كان هو أول ما دعت إليه الرسل جميعًا ، كما قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [سورة النحل : الآية 36] . وحين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن أمره بأن يبدأ بدعوة الناس إلى التوحيد فقال : « إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » ( 13) .
وهذا الدين الخاتم جاء بتقرير التوحيد ، والنهي عما يضاده ، وجاء بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك ما لم يأتي مثله في الشرائع السابقة .
وكان مما حذر منه الكتاب والسُّنة الغلو في الصالحين من الملائكة والأنبياء ، أو العلماء والزهاد ، وكذا الغلو في بعض الجمادات ، كالأشجار والأحجار وغيرها ؛ لأن هذا الغلو هو مفتاح الشرك الأكبر ، وبابه النافذ إليه ، وبه ضل قوم نوح ، ومن بعدهم ، وقد سبق في علم الله أن هذا واقع في هذه الأمة ، كما وقعت فيه الأمم من قبلها ، فلذا كثر التحذير منه ، ومع ذلك وقع فيه كثير من المنتسبين للإسلام في القديم والحديث .
تقسيم آخر للغلو :
والغلو على نوعين :
•نوع مخرج من الملة ، وهو ما بلغ بصاحبه إلى تسوية غير الله بالله ، فيما هو من خصائص الله ، كمن ينسب إلى بعض الخلق أنه يعلم الغيب ، أو أنه على كل شيء قدير ، أو أنه يتصرف في الكون بحياة أو موت ، أو نفع أو ضر ، وهذا استقلال بقدرته هو ومشيئته . وهذا يوجد عند كثير من الغلاة من الروافض والصوفية وأشباههم ، ومن صوره أيضًا صرف العبادة لغير الله - عز وجل - كدعاء الأولياء والاستغاثة بهم ، والذبح لهم ، والنذر لهم ، والطواف بقبورهم تقربًا إليهم ؛ لأنها عبادات ، والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك .
•نوع يؤدي إلى الشرك : وهو ذريعة إليه ، مثل : رفع قبور الأولياء ، وبناء القباب والمساجد عليها ، أو دفن الأولياء في المساجد ، وشد الرحال إليهم ، والتوسل إلى الله - عز وجل - بجاههم ، والحلف بهم ، مع الاعتقاد أن الحلف بهم دون الحلف بالله ، إما إن قام بقلب صاحبه - يعني الحالف - أن الحلف بغير الله كالحلف بالله أو أعظم فهذا شرك أكبر .
ومن هنا يتبين لك - أخي المبارك - خطورة الغلو في الصالحين ، كيف لا وهو سبب أو شرك وقع في بني آدم ، كما حصل للقوم الذين بُعث فيهم نوح عليهم - عليه الصلاة والسلام - في الخبر المشهور ؛ حيث غلو في وَدٍّ وسُواع ويغوثَ ويَعوقَ ونَسرًا . وهؤلاء كانوا قومًا صالحين ، فلما ماتوا صوروا لهم تماثيل ؛ حتى يتذكروهم ، فيعملوا مثل عملهم . ثم تقادم الزمان ، ونسي العلم ، ومات أولئك ، فجاء مِن بعدهم قوم أوحى لهم الشيطان أن اعبدوها من دون الله - عز وجل - فعبدوها من دون الله ، فوقع أول شِرك في بني آدم .
فأرسل الله نوحًا - عليه الصلاة والسلام - فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ودعاهم إلى الكفر بعبادة ما سواه ، ولبث فيهم ألفَ سنة إلا خمسين عامًا ، فأهلك الله - عز وجل - كفار قومه ، ونجَّى نوحًا ومَن آمن معه ، وما آمن معه إلا قليل .
وقد ورثت العرب تلك الأصنام ، وبقيت فيهم ، حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فأهلكها على يديه . ولخطورة الغلو في الصالحين ، وشدة الفتنة بهم ،
النصوص الواردة في التحذير من الغلو :
وقد جاء التحذير منه في الكتاب والسُّنة ، وفي كلام السلف ، في نصوص كثيرة منها :
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تُطْرُونِي ( 14) كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنِّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا : عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ » ( 15) . رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً قال : يا محمد ، يا سيدنا ، يا ابن سيدنا وخيرنا ، وابن خيرنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ ، لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ » ( 16) . رواه أحمد بإسناد صحيح .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن أم حبيبة وأم سلمة - رضي الله عنهما - ذكرتا كنسية رأيْنَها بالحبشة ، فيها تصاوير ، فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ( 17) . متفق عليه .
وعن ابن سويد قال : خرجنا مع عمر في حجة حجها ، فقرأ بنا في الفجر : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ ﴾ و﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ﴾ . فلما قضى حجه ورجع ، والناس يبتدرون ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقال : " هكذا هلك أهل الكتاب ، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا ، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل " ( 18) . رواه ابن أبي شيبة ، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قال الإمام محمد بن وضاح - رحمه الله - : " وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد ، وتلك الآثار ، للنبي صلى الله عليه وسلم ، ما عدا قباء " . وقال ابن وضاح : " وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس ، فصلى فيه ، ولم يتبع تلك الآثار ، ولا الصلاة فيها " .
فمن تأمل هذه النصوص - أيها الإخوة - عرف أن الغلو في الأولياء والصالحين والأضرحة ليس من الدين في شيء ، بل دين الله منه براء . ومحبة الصالحين إنما تكون بالاقتداء بهم في الخير ، لا بجعلهم أندادًا لله تعالى ، ولا أن يفعل بهم ما يكون وسيلةً إلى الشرك الأكبر - والعياذ بالله - كما هو الحاصل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي .
ومما يبعث على الأسى زهد كثير من أهل العلم في الجامعات والمعاهد الدينية ، والمشتغلين بالدعوة إلى الله من الأفراد والجماعات ، ببيان حقيقة توحيد العبادة ، وبيان ما يضادها ، وتقصيرهم في تحذير الأمة من الغلو في الصالحين ، وأصحاب الأضرحة ، في الوقت الذي يكثر فيها المفتونون بها .
والباعث على هذا التقصير ؛ إما الجهل بحقيقة الإسلام ، وإما خشية إغضاب الجماهير ، وإما أن يلتزم الداعي بمنهج جماعة لا تُقرُّ أصلاً الدعوة إلى التوحيد ؛ أي توحيد العبادة ، ولا التحذير من الشرك ووسائله ، كما هو الغالب على حال الجماعات اليوم .
ولا شك أن السكوت عن بيان الشرك ، وعن بيان التوحيد ، لا سيما توحيد العبادة ، من أعظم الغش للأمة وللأتباع وللمدعوين . فإن المبتلى بالشرك إذا مات عليه كان من أهل النار ، خالدًا فيها . فكيف يتركه الداعي في هذه الورطة العظيمة ، التي لا مخرجَ له منها ، إلا بإخلاص العبادة لله .
إن على الدعاة إلى الله أن يترسموا خُطا محمد - صلى الله عليه وسلم - والنبيين من قبله ، في الدعوة إلى الله . فقد قص الله عنهم جميعًا أن أساس دعوتهم كانت الدعوة إلى توحيد الله ، وترك الإشراك به .
فقال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [سورة النحل : الآية 36] . وقال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [سورة الأنبياء : الآية 25] . وقص الله تعالى عن جملة من رسله أنهم دعوا أقوامهم ، فقال كلٌّ منهم : ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 59] . وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين للناس حقيقة دعوته في قوله تعالى : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [سورة يوسف : الآية 108] .
ولقد جر السكوت عن بيان التوحيد - توحيد العبادة - إلى تعلق كثير من الناس بغير الله تعالى ، يدعونهم ويرجونهم ، ويذبحون لهم ، ويستغيثون بهم عند الشدائد والكربات ، في عامة بلاد المسلمين . وكثير منهم يظن أنه على حق ، لا سيما وهم يرون من يحسنون الظن بهم ، من المنتسبين للعلم والدعوة ، لا ينكرون عليهم هذا ، إذا لم يسوغوا لهم بدعهم وخرافاتهم وشركياتهم .
نسأل الله أن يقيض لبلاد المسلمين ، التي ليس فيها من يدعو إلى التوحيد من أهل العلم ، من يقوم بهذا الواجب أحسن قيام وأتمه.
الغلو في المتبوعين والأحزاب والجماعات :
لقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يكونوا أمة واحدة ، متفقين غير مختلفين ، تربطهم أخوة الإيمان والمحبة فيه سبحانه وتعالى ، مجتمعين على كتاب الله ، وعلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فَهم السلف الصالح ، ونهاهم عن التفرق والتح** والتعصب ، فقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة الروم : الآيتان 31 – 32] .
ولكن داء التح** والتعصب والتفرق دبَّ إلى هذه الأمة كما دبَّ إلى الأمم سابقًا من قبلنا ، بل أكثر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ : ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ » ( 19) .
وقد حذر أئمة الإسلام من هذه الفرق والأحزاب . وإليك - أخي المبارك - هذه الفتوى القيمة المختصرة للإمام محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - حيث سُئِلَ : هل هناك نصوص في كتاب الله وسُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيها إباحةٌ لتعدد الجماعات الإسلامية . فأجاب - رحمه الله - : " ليس في الكتاب ، ولا في السنة ، ما يبيح تعدد الجماعات والأحزاب ، بل إن في الكتاب والسنة ما يذم ذلك ؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 159] . وقال تعالى ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة الروم : الآية 32] .
ولا شك أن هذه الأحزاب تنافي ما أمر الله به ، بل ما حثَّ عليه في قوله : ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [سورة المؤمنون : الآية 52] . ولا سيما حين ننظر إلى آثار هذا التفرق والتح** ؛ حيث كان كل ح** وكل فريق يرمي الآخر بالتشنيع والسب والتفسيق ، وربما بما هو أعظم من ذلك .
لذلك فإنني أرى أن هذا التح** خطأ ، وقول بعضهم : إنه لا يمكن للدعوة أن تقوى وتنتشر إلا إذا كانت تحت ح** . فنقول : إن هذا الكلام غير صحيح ، بل إن الدعوة تقوى وتنتشر ، كلما كان الإنسان أشد تمسكًا بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، وأكثر اتباعًا لآثار النبي - عليه الصلاة والسلام - وخلفائه الراشدين " . انتهى كلامه رحمه الله .
د. عبد الله الكنهان والشيخ محمد الفيفي
مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
أيها الإخوة والأخوات ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وحياكم الله في هذا اللقاء الطيب المبارك ، الذي يجمعنا بصاحبي الفضيلة ؛ صاحب الفضيلة الدكتور عبد الله بن صالح الكنهان ،الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . وصاحب الفضيلة الشيخ محمد بن أحمد الفيفي ،الداعية بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالرياض .
ولا شك أن موضوع هذا اللقاء يحتاج المجتمع بصورة كبيرة لبيانه ، وتشتد الحاجة لكثرة مَن تبنَّى هذا الفكر : فكر "الغلو في الدين" لبيان معنى الغلو وتجليته وأسبابه ، والأسباب التي تجعل الإنسان ينجو من هذا الفكر الخطير .
نبتدئ حديثنا أيها الأحبة مع فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح الكنهان ، عن بيان المراد الغلو في الدين ، ويبين لنا الأدلة الشرعية التي تحذر من هذا الفكر ، فليتفضل أثابه الله وسدده.
حديث فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :
الغلو عند أهل الكتاب :
أيها الإخوة ، هذه الظاهرة التي سنتحدث عنها - إن شاء الله - في هذه الليلة ظاهرة قديمة ، وجدت قبل الإسلام ، فقد قص الله - عز وجل - علينا في كتابه الكريم ما كان من أهل الكتاب من غلو ، على سبيل التحذير من سلوك مسالكهم ، وفعل مثلما فعلوا . وقد قص الله - عز وجل - علينا عن النصارى ما وقع منهم من غلوٍّ في عيسى ابن مريم ، كما في قوله سبحانه : ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [سورة التوبة : الآية 31] . فقد غلوا في أحبارهم ، وغلوا في رهبانهم ، فكانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه ، وجعلوا عيسى ابن مريم إلهًا مع الله - جل وعلا ، وهذا من الغلو .
الغلو عن المسلمين :
وهذه الأمة ليست بمنأًى عن الغلو ، ولذا قص الله - عز وجل - علينا هذه الأخبار ؛ لكي نحذر أن نسلك مسلكهم ، لما جاء الإسلام وجدت أيضًا بعض بوادر الغلو ، لا سيما في العبادة ، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبادر إلى علاجها ، ويحذر من الغلو ، ويرشد إلى اتباع السنة ، وتجنب طرق أهل الغلو .
وفي عهد الصحابة - رضي الله عنهم - وبعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهرت فرقٌ غلت في أمور اعتقادية ، فظهرت الخوارج ، وظهرت القدرية ، وهكذا كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم علماء الأمة حين ذاك ، كانوا يتصدون لهذه الظاهرة ، فيبينون بطلان هذا المسلك ، ويحذرون من مَغبة الغلو ، ويرشدون الناس إلى الطريقة الصحيحة الوسط ، التي جاءت بها شريعة الإسلام .
الغلو في العصر الحالي :
واستمر مسلسل الغلو في تاريخ الأمة ، فلم يسلم عصر من العصور من وجود فِرق من فرق الغلاة ، وكان علماء الأمة يتصدون لمثل هذه الظواهر ، فيبينون حكم الشرع فيها ؛ إبراءً للذمة ، وتحذيرًا من تلك المسالك المردية ، وهذا هو دور العلماء في كل زمان ومكان .
ولم يكن عصرنا - أيها الإخوة - بمنأًى عن هذه الظاهرة ، فقد ظهرت مظاهر عدة من مظاهر الغلو ، وإن ما نشهده ، مما اكتوت به هذه البلاد من أحداثٍ وتفجيرات وعنف وتكفير ، كل هذا من مظاهر الغلو ، التي حذرنا منها الإسلام ، وحذرتنا منها نصوص الوحيين .
ولهذا - أيها الإخوة - كان من الواجب على أهل العلم أن يبينوا أخطار هذه الظاهرة ، ويبينوا الأدلة الشرعية على تحريم سلوك مثل هذه المسالك ؛ ليكون الناس على بصيرة من أمرهم ، ومن هنا كان طرح هذا الموضوع .
وسيكون حديثي في البداية عن النقطة الأولى ، أو العنصر الأول ، وهو : معنى الغلو . قبل أن ندخل في بيان التحذير من الغلو ، وأسبابه وعلاجه ، إلى آخره .
تعريف الغلو :
لا بد أن نتعرف على المراد بالغلو ، ذكر أهل اللغة أن الغلو في اللغة هو بمعنى مجاوزة الحد ، فكل مَن جاوز الحد فهو غالٍ . وذكر بعض أهل العلم أن تعريفه شرعًا هو تجاوز الحد الشرعي بالزيادة ، اعتقادًا أو عملاً ، وتجاوز الحد الشرعي بالزيادة على ما جاءت به الشريعة ، سواء في الاعتقاد أم في العمل .
أنواع الغلو :
ومن هنا - أيها الإخوة - يتبين لنا أن للغلو نوعين :
النوع الأول :
•الغلو الاعتقادي : ومن أمثلته الغلو في الأنبياء والصالحين ، كمن يغلو في نبي من الأنبياء ، فيستغيث به ، ويسأله من دون الله - عز وجل - أو يدعي فيه أنه يعلم الغيب ، أو غير ذلك ، مما هو من خصائص المولى تبارك وتعالى . ومن ذلك أيضا الغلو في الصالحين ، وفي قبور الصالحين ، وسؤالهم تفريج الكربات ، وإجابة الدعوات ، فهذا أيضًا من الغلو الاعتقادي . ومن ذلك أيضًا الغلو في التكفير بغير برهان من الله - عز وجل - ولا من رسوله - صلى الله عليه وسلم . فهذه من أمثلة الغلو الاعتقادي .
وقد ثبت في صحيح البخاري ، من حديث أبي سعيد مرفوعًا ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ ( 1) هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ » ( 2) .
وهاتان الصفتان اللتان ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - هما صفتان مشتركتان ، توجدان في كثير من فرق الغلاة على مدار التاريخ ، فهم قليلو العلم ، جاهلون بالشرع . ولهذا حتى لو قرءوا القرآن فإنه لا يجاوز حناجرهم ، بمعنى أنهم يقرءون بدون تدبر ، وبدون فهم ، ولهذا لا يهتدون بهدي القرآن ، ولا ينتفعون بمواعظه ، والصفة الثانية أنهم يقعون في استباحة الدماء ، فهم : " يدعون أهل الأوثان ، ويقتلون أهل الإسلام " . وذلك نتيجة لتكفيرهم لأولئك القوم ، فهم يكفرون المسلمين ، ثم ينطلقون من ذلك الاعتبار إلى استباحة دمائهم .
النوع الثاني :
•الغلو العملي : والمراد بالغلو العملي هو : الزيادة في العبادة . فقد يزيد المسلم في عبادة من العبادات على الحد الذي وضعه الشرع ؛ طلبًا للتقرب إلى الله - عز وجل - فيشق على نفسه ، مثلاً كالشخص الذي يصوم ولا يفطر ، أو يقوم الليل كله ولا يرقد ، أو يتعبد لله - عز وجل - باعتزال النساء ، واعتزال الزوجات .
وهذه الظاهرة وجدت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس ، في قصة الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوا عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنهم تقالوه ، ثم قالوا : وأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ثم قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد . وقال الآخر : وأما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر . وقال الثالث : وأما أنا فأعتزل النساء . فلما جاء رسول الهدى - صلوات ربي وسلامه عليه - وعلم بما قالوا بيَّن لهم المنهج الصحيح ، وأنكر عليهم هذا الانحراف عن السنة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « أَمَا إِنِّي أَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » ( 3) .
وإن النوع الأول - وهو الغلو في الاعتقاد - أشد خطرًا من النوع الثاني ، وإن كان كلاهما فيه خطر على الأمة ؛ لأن النوع الثاني يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين ، ومنه نشأت الفرق الضالة التي انحرفت عن جادة الصواب ، واستباحت دماء المسلمين وأموالهم ، وأوقعت في بلاد الإسلام الفتنة .
المرجع لمعرفة ما يكون فيه الغلو :
فما المرجع فيما يُعد غلوًّا ؛ حتى تتبين لنا حقيقة الغلو ؟ لا بد من مرجع يتبين من خلاله ما يصح أن يسمى غلوًّا ، وما لا يصح أن يسمى كذلك .
المرجع في هذا - أيها الإخوة - هو الكتاب والسُّنة ، وشريعة رب العالمين ؛ لأننا ذكرنا أن تعريف الغلو هو تجاوز الحد الشرعي ، يعني الحد الذي وضعه الشرع ، فحتى نعرف أن فعلاً من الأفعال ، أو اعتقادًا من الاعتقادات هو غلو ، لا بد أن نتبين حدود الشرع في هذا الجانب . فإن كان ذلكم الفعل ، أو ذلك الاعتقاد ، متجاوزًا لحدود الشرع فهو غلو ، وإن كان في حدود الشرع فليس غلوًّا ، وإن سماه مَن سماه غلوا .
لأننا نجد بعض الناس ممَّن قل علمهم ، أو وجدت عندهم نيات غير صالحة ، أنهم يصفون بعض ما هو من الدين بالغلو ، فتجد من يصف الحجاب - حجاب المرأة المسلمة - بالغلو ، وتجد من يصف تحريم المعازف التي جاءت النصوص بتحريمها بالغلو ، وتجد من يجعل إعفاء اللحى نوعًا من الغلو . وكل هذه الأمور جاءت بها نصوص الشريعة ، فهي من الإسلام ، وليست من الغلو في شيء .
مقابل الغلو :
حتى يتضح لنا حقيقة الغلو فلا بد أن نعرف ما مقابل الغلو ، مقابل الغلو في الطرف الآخر هو الجفاء ، فكما قال بعض السلف : " دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه " . فدين الله وسَط بين الغالي فيه ، وبين الجافي عنه . فالطرف الآخر هو الجفاء ، وهو التفريط ، والغلو هو الإفراط ، وكلا الأمرين مذموم .
فالشريعة جاءت بذم التفريط ، وبذم الإفراط ، وجاءت بالعدل ، وسلوك منهج الوسط في الاعتقاد وفي العمل . لهذا يقول ابن القيم - رحمه الله – : " ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان ؛ إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه " ( 4) . فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له ، فالغالي فيه مضيع ، هذا بتقصيره عن الحد ، وهذا بتجاوزه الحد .
لكن الغلو - أيها الإخوة - أشد خطرًا من الجفاء ، وإن كان كلاهما انحراف من ناحية أن الغلو يفرق الأمة ، ويفتح الطريق إلى البدع على مصراعيه ، وتستباح به الدماء ، والأموال المعصومة .
ثم إن الغالي يظن أنه على حق في كثير من الأحوال ، فيستمر في غيه ، وفي غلوه ، بخلاف العاصي المفرط ، الذي يعلم تقصيره ، فهو أرجى إلى أن يرجع ويئوب ويتوب إلى الله - جل وعلا .
الأدلة على التحذير من الغلو :
القضية الثانية التي سأتحدث عنها هي الأدلة على التحذير من الغلو ، فقد تبين فيما مضى حقيقة الغلو ، وما يتعلق به من أنواع . وسأنتقل الآن إلى ذكر بعض الأدلة الشرعية في التحذير من الغلو ومسالكه .
فقد قص الله - عز وجل - علينا - كما أشرت فيما مضى - ألوانًا من غلو أهل الكتابين ، وما ذاك إلا لكي تتعظ هذه الأمة ، وتتجنب سلوك مسالك الغلو .
الأدلة من القرآن :
الدليل الأول :
فمن ذلك قوله سبحانه : ﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ ﴾ [سورة النساء : الآية 171] .
الدليل الثاني :
ويقول - جل وعلا - في الآية الأخرى : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 77] .
الأدلة من السنة المطهرة :
الدليل الأول :
وأما من السُّنة ؛ فقد جاءت أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحذر من الغلو والتنطع ، منها حديث عبد الله بن مسعود ؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم : « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ » ( 5) .
والمتنطع - كما يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم - هو المتعمق في الشيء ، المغالي فيه ، المجاوز حدَّ الشرع فيه ، سواء أكان قولاً أم فعلاً أم اعتقادًا .
الدليل الثاني :
ومن الأدلة أيضا التي تحذر الأمة من الغلو حديث ابن عباس - رضي الله عنهما – قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداةَ جمع - يعني صبيحة ليلة مزدلفة ، وهي ليلة يوم النحر : « هَاتِ، الْقُطْ لِي » . فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ( 6) ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ : « بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ » .يعني : فارموا . « وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ » (7 ) .
هذا هو الدليل ، وإن كان جاء على سبب خاص ، وهو قضية الغلو في حصى الجمار ؛ لأن بعض الناس قد يظن أن كبر حجم الحصى من الدين ؛ لأن الحصى كلما كان أكبر كان أقوى وأوقع أثرًا . فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع السنة بقوله : « بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ » أي : فارموا بما يقارب هذا الحجم ، ولا تحكموا عقولكم ، بل اتبعوا سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وإياكم والغلو في الدين .
لكن كما يقول العلماء : العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب . ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه رحمة الله - بعد أن أورد هذا الحديث : " عام في جميع أنواع الغلو ؛ في الاعتقاد والأعمال " ( 8) .
الدليل الثالث :
من الأدلة التي تحذر الأمة من الغلو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ » ( 9) . ويشاد بمعني : يغالب . فمَن غالب الدين ، فشق على نفسه ، فسيكون منتهى أمره إلى الانقطاع ويُغلَب ، كما قال - صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر - : « عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا » (10 ) .
الدليل الرابع :
ومن النصوص التي تحذر ، أو تفيد التحذير من الغلو النصوص الواردة في مدح ضد الغلو ، فقد جاءت النصوص الشرعية ببيان يُسر الإسلام وسهولته ، وأنه جاء برفع الحرج ، وجاءت الشريعة تحث على الرفق ، وتحث على الاعتدال ، وعلى الوسطية . هذه الأمور كلها تنافي الغلو ، فالحث عليها ، وإرشاد الأمة إليها ، هو في الواقع أيضًا تحذير من ضدها ، وهو الغلو .
ومن ذلك قوله جل وعلا : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 185] . وقوله سبحانه : ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [سورة الحج : الآية 78] . وقوله سبحانه : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [سورة البقرة : الآية 143] . وسطًا يعني : عدولاً خيارًا .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ » ( 11) . هذه بعض الأدلة التي تحذر من الغلو وأكتفي بهذا القدر .
حديث الشيخ محمد الفيفي
مظاهر الغلو في الدين في عصرنا الحالي :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وإمام المتقين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
مما يحسن الكلام حوله في هذه الندوة الحديث الكلام عن بعض مظاهر الغلو ، وهي - وإن كانت كثيرة - فسوف نقتصر على أهمها ، مما يتسع ويسمح به الوقت .
من مظاهر الغلو :
•الغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين .
•الغلو في المتبوعين والأحزاب والجماعات .
•الغلو في إنكار المنكر .
•الغلو في الجهاد .
•الغلو في الولاء والبراء ، وغير ذلك من الأنواع .
الغلو في الأنبياء والأولياء الصالحين :
لقد خلق الله - عز وجل - الثقلين لحكمة واحدة ؛ وهي أن يعبدوه وحده ، كما قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات : الآية 56] . والعبادة اسم جامع لكل ما يحب الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر والسجود ، وغير ذلك .
ومَن صرف شيئًا من العبادة لغير الله فقد جعله شريكا لله تعالى ، فإن كل ما أمر الله أن يصرف له فلا يجوز صرفه لغيره ، فإن فعل فقد وقع في التنديد ، الذي هو أعظم الكبائر .
فقد سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم ؟ فقال : « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ » (12) . متفق عليه . وسواء أكان هذا الشريك مَلِكًا أم نبيًّا أم وليًّا أم شجرًا أم حجرًا أو كوكبًا ؛ لأن الله - عز وجل - يقول : ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [سورة النساء : الآية 36] . ويقول جل وعلا : ﴿ وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [سورة الجن : الآية 18] .
وقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقوام مختلفي المشارب ، متبايني الاعتقادات ، فمنهم مَن يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأنبياء ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ، ومنهم من يعبد الصالحين . فلم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم ، بل حَكم عليهم جميعًا بالكفر والشرك ، واستحل بذلك دمائهم وأموالهم ، وسبي نسائهم ، فدل على أن حكم الجميع واحد ، ولما كان الشرك أعظم الذنوب ؛ إذ هو الذنب الذي لا يغفر أبدًا ، لمن لقي الله عليه من غير توبة ، كما قال - جل وعلا - : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾ [سورة النساء : الآية 48] .
كما أن توحيد الله تعالى في العبادة أعظم الواجبات ، فلذلك كان هو أول ما دعت إليه الرسل جميعًا ، كما قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [سورة النحل : الآية 36] . وحين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن أمره بأن يبدأ بدعوة الناس إلى التوحيد فقال : « إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » ( 13) .
وهذا الدين الخاتم جاء بتقرير التوحيد ، والنهي عما يضاده ، وجاء بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك ما لم يأتي مثله في الشرائع السابقة .
وكان مما حذر منه الكتاب والسُّنة الغلو في الصالحين من الملائكة والأنبياء ، أو العلماء والزهاد ، وكذا الغلو في بعض الجمادات ، كالأشجار والأحجار وغيرها ؛ لأن هذا الغلو هو مفتاح الشرك الأكبر ، وبابه النافذ إليه ، وبه ضل قوم نوح ، ومن بعدهم ، وقد سبق في علم الله أن هذا واقع في هذه الأمة ، كما وقعت فيه الأمم من قبلها ، فلذا كثر التحذير منه ، ومع ذلك وقع فيه كثير من المنتسبين للإسلام في القديم والحديث .
تقسيم آخر للغلو :
والغلو على نوعين :
•نوع مخرج من الملة ، وهو ما بلغ بصاحبه إلى تسوية غير الله بالله ، فيما هو من خصائص الله ، كمن ينسب إلى بعض الخلق أنه يعلم الغيب ، أو أنه على كل شيء قدير ، أو أنه يتصرف في الكون بحياة أو موت ، أو نفع أو ضر ، وهذا استقلال بقدرته هو ومشيئته . وهذا يوجد عند كثير من الغلاة من الروافض والصوفية وأشباههم ، ومن صوره أيضًا صرف العبادة لغير الله - عز وجل - كدعاء الأولياء والاستغاثة بهم ، والذبح لهم ، والنذر لهم ، والطواف بقبورهم تقربًا إليهم ؛ لأنها عبادات ، والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك .
•نوع يؤدي إلى الشرك : وهو ذريعة إليه ، مثل : رفع قبور الأولياء ، وبناء القباب والمساجد عليها ، أو دفن الأولياء في المساجد ، وشد الرحال إليهم ، والتوسل إلى الله - عز وجل - بجاههم ، والحلف بهم ، مع الاعتقاد أن الحلف بهم دون الحلف بالله ، إما إن قام بقلب صاحبه - يعني الحالف - أن الحلف بغير الله كالحلف بالله أو أعظم فهذا شرك أكبر .
ومن هنا يتبين لك - أخي المبارك - خطورة الغلو في الصالحين ، كيف لا وهو سبب أو شرك وقع في بني آدم ، كما حصل للقوم الذين بُعث فيهم نوح عليهم - عليه الصلاة والسلام - في الخبر المشهور ؛ حيث غلو في وَدٍّ وسُواع ويغوثَ ويَعوقَ ونَسرًا . وهؤلاء كانوا قومًا صالحين ، فلما ماتوا صوروا لهم تماثيل ؛ حتى يتذكروهم ، فيعملوا مثل عملهم . ثم تقادم الزمان ، ونسي العلم ، ومات أولئك ، فجاء مِن بعدهم قوم أوحى لهم الشيطان أن اعبدوها من دون الله - عز وجل - فعبدوها من دون الله ، فوقع أول شِرك في بني آدم .
فأرسل الله نوحًا - عليه الصلاة والسلام - فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ودعاهم إلى الكفر بعبادة ما سواه ، ولبث فيهم ألفَ سنة إلا خمسين عامًا ، فأهلك الله - عز وجل - كفار قومه ، ونجَّى نوحًا ومَن آمن معه ، وما آمن معه إلا قليل .
وقد ورثت العرب تلك الأصنام ، وبقيت فيهم ، حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فأهلكها على يديه . ولخطورة الغلو في الصالحين ، وشدة الفتنة بهم ،
النصوص الواردة في التحذير من الغلو :
وقد جاء التحذير منه في الكتاب والسُّنة ، وفي كلام السلف ، في نصوص كثيرة منها :
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تُطْرُونِي ( 14) كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنِّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا : عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ » ( 15) . رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً قال : يا محمد ، يا سيدنا ، يا ابن سيدنا وخيرنا ، وابن خيرنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ ، لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ » ( 16) . رواه أحمد بإسناد صحيح .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن أم حبيبة وأم سلمة - رضي الله عنهما - ذكرتا كنسية رأيْنَها بالحبشة ، فيها تصاوير ، فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ( 17) . متفق عليه .
وعن ابن سويد قال : خرجنا مع عمر في حجة حجها ، فقرأ بنا في الفجر : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ ﴾ و﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ﴾ . فلما قضى حجه ورجع ، والناس يبتدرون ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقال : " هكذا هلك أهل الكتاب ، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا ، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل " ( 18) . رواه ابن أبي شيبة ، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قال الإمام محمد بن وضاح - رحمه الله - : " وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد ، وتلك الآثار ، للنبي صلى الله عليه وسلم ، ما عدا قباء " . وقال ابن وضاح : " وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس ، فصلى فيه ، ولم يتبع تلك الآثار ، ولا الصلاة فيها " .
فمن تأمل هذه النصوص - أيها الإخوة - عرف أن الغلو في الأولياء والصالحين والأضرحة ليس من الدين في شيء ، بل دين الله منه براء . ومحبة الصالحين إنما تكون بالاقتداء بهم في الخير ، لا بجعلهم أندادًا لله تعالى ، ولا أن يفعل بهم ما يكون وسيلةً إلى الشرك الأكبر - والعياذ بالله - كما هو الحاصل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي .
ومما يبعث على الأسى زهد كثير من أهل العلم في الجامعات والمعاهد الدينية ، والمشتغلين بالدعوة إلى الله من الأفراد والجماعات ، ببيان حقيقة توحيد العبادة ، وبيان ما يضادها ، وتقصيرهم في تحذير الأمة من الغلو في الصالحين ، وأصحاب الأضرحة ، في الوقت الذي يكثر فيها المفتونون بها .
والباعث على هذا التقصير ؛ إما الجهل بحقيقة الإسلام ، وإما خشية إغضاب الجماهير ، وإما أن يلتزم الداعي بمنهج جماعة لا تُقرُّ أصلاً الدعوة إلى التوحيد ؛ أي توحيد العبادة ، ولا التحذير من الشرك ووسائله ، كما هو الغالب على حال الجماعات اليوم .
ولا شك أن السكوت عن بيان الشرك ، وعن بيان التوحيد ، لا سيما توحيد العبادة ، من أعظم الغش للأمة وللأتباع وللمدعوين . فإن المبتلى بالشرك إذا مات عليه كان من أهل النار ، خالدًا فيها . فكيف يتركه الداعي في هذه الورطة العظيمة ، التي لا مخرجَ له منها ، إلا بإخلاص العبادة لله .
إن على الدعاة إلى الله أن يترسموا خُطا محمد - صلى الله عليه وسلم - والنبيين من قبله ، في الدعوة إلى الله . فقد قص الله عنهم جميعًا أن أساس دعوتهم كانت الدعوة إلى توحيد الله ، وترك الإشراك به .
فقال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [سورة النحل : الآية 36] . وقال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [سورة الأنبياء : الآية 25] . وقص الله تعالى عن جملة من رسله أنهم دعوا أقوامهم ، فقال كلٌّ منهم : ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 59] . وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين للناس حقيقة دعوته في قوله تعالى : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [سورة يوسف : الآية 108] .
ولقد جر السكوت عن بيان التوحيد - توحيد العبادة - إلى تعلق كثير من الناس بغير الله تعالى ، يدعونهم ويرجونهم ، ويذبحون لهم ، ويستغيثون بهم عند الشدائد والكربات ، في عامة بلاد المسلمين . وكثير منهم يظن أنه على حق ، لا سيما وهم يرون من يحسنون الظن بهم ، من المنتسبين للعلم والدعوة ، لا ينكرون عليهم هذا ، إذا لم يسوغوا لهم بدعهم وخرافاتهم وشركياتهم .
نسأل الله أن يقيض لبلاد المسلمين ، التي ليس فيها من يدعو إلى التوحيد من أهل العلم ، من يقوم بهذا الواجب أحسن قيام وأتمه.
الغلو في المتبوعين والأحزاب والجماعات :
لقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يكونوا أمة واحدة ، متفقين غير مختلفين ، تربطهم أخوة الإيمان والمحبة فيه سبحانه وتعالى ، مجتمعين على كتاب الله ، وعلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فَهم السلف الصالح ، ونهاهم عن التفرق والتح** والتعصب ، فقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة الروم : الآيتان 31 – 32] .
ولكن داء التح** والتعصب والتفرق دبَّ إلى هذه الأمة كما دبَّ إلى الأمم سابقًا من قبلنا ، بل أكثر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ : ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ » ( 19) .
وقد حذر أئمة الإسلام من هذه الفرق والأحزاب . وإليك - أخي المبارك - هذه الفتوى القيمة المختصرة للإمام محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - حيث سُئِلَ : هل هناك نصوص في كتاب الله وسُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيها إباحةٌ لتعدد الجماعات الإسلامية . فأجاب - رحمه الله - : " ليس في الكتاب ، ولا في السنة ، ما يبيح تعدد الجماعات والأحزاب ، بل إن في الكتاب والسنة ما يذم ذلك ؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 159] . وقال تعالى ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة الروم : الآية 32] .
ولا شك أن هذه الأحزاب تنافي ما أمر الله به ، بل ما حثَّ عليه في قوله : ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [سورة المؤمنون : الآية 52] . ولا سيما حين ننظر إلى آثار هذا التفرق والتح** ؛ حيث كان كل ح** وكل فريق يرمي الآخر بالتشنيع والسب والتفسيق ، وربما بما هو أعظم من ذلك .
لذلك فإنني أرى أن هذا التح** خطأ ، وقول بعضهم : إنه لا يمكن للدعوة أن تقوى وتنتشر إلا إذا كانت تحت ح** . فنقول : إن هذا الكلام غير صحيح ، بل إن الدعوة تقوى وتنتشر ، كلما كان الإنسان أشد تمسكًا بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، وأكثر اتباعًا لآثار النبي - عليه الصلاة والسلام - وخلفائه الراشدين " . انتهى كلامه رحمه الله .