تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : خطابٌ مفتوح إلى وزير التربية


الأستاذ أبو يوسف
2013-03-27, 02:20 PM
2جمادى الأولى 1434-2013-03-1407:47 pm
خطابٌ مفتوح إلى وزير التربية



محمد عبدالعزيز الفهد


سمو وزير التربية الأمير فيصل بن عبدالله.. سوف أتحدث مع سموكم حديث الصراحة، حديث الشفافية والوضوح حول واقع التعليم في بلادنا، وإذا كان حديثي ناقداً فإن النقد حكمة وتقويم كما يقول "هشام نابه"، أنا لا أتحدث للتهجم والانتقاد ولا للجدل والمناقشة، وإنما أقول الحق ولو كان مراً، وأقول الحقيقة الناصعة التي تجري على لسان صادق ونزيه، عارف ببواطن الأمور، ومن لم يتعود أن يسمعها أو يراها فإنها تجرحه في سمعه بوقعها الشديد وتؤذيه في بصره بنورها الثاقب.

سمو الأمير: في وقتٍ نقف فيه على مفترق الطرق والتحديات للأمة من كل جانب فمن الطبيعي إن لم أقل من الضروري أن ترتفع الأصوات مرددة هل من خلاص؟ وأصابع الاتهام في مجال التعليم تشير إلى كل جانب، فالكل متَهم ومتِهم في آنٍ واحد، المعلم يتهم التلميذ، التلميذ يتهم المعلم، المعلم يتهم المدير والمشرف، وكلاهما يتهم المعلم والإدارة التعليمية، والمسؤولون يتهمون الجميع، وهم متهمون من الجميع، حتى غدا المجتمع بأسره في قفص الاتهام، وكأن الجميع ينظرون إلى غير المكان الذي يجب أن ينظروا إليه، الكل يبحث عن خشبة الخلاص فلا يهتدون إليها وهي بين ظهرانيهم، فيتصورونها حيناً في الشدة والقرارات التعسفية واللوائح التنظيمية، وحيناً آخر في الرفاهية وتوفير الحاجات، مرة في إعادة التنظيم والهيكلة والتغيير في المسؤول، ومرة أخرى في الكتاب المدرسي وطريقة الطباعة والصور، وأحياناً في الشعارات وصياغة المبادرات حتى لتبدو كالخطب الرنانة، يُستدعى الخبراء والمستشارون وتوزّع المهام والصلاحيات وتؤلف اللجان وفرق العمل وتعقد الندوات والمؤتمرات والحوارات، ودائماً النتيجة واحدة والمشكلة لا تتغير بل تتفاقم وتتعقد والزمن يمر والإمكانات تُهدر والطاقات تُدفن والخبرات تموت، والمشكلة تزداد تعقيداً والأجيال تدهوراً والشقة بيننا وبين من هم غايتنا وهدفنا تزداد عمقاً واتساعاً، حتى كادوا أو كدنا نكون غرباء عنهم، وهم غرباء عنا.

سمو الأمير: ليست المشكلة أن يكون التعليم في أزمة لكن المشكلة الأدهى ألا نعي ذلك ﻷن الاعتراف بالأزمة يساعد على صياغة حلول تؤدي إلى نظام تعليمي يتم تفعيله وتوفير إمكاناته بوضوح تام، يقول أحد التربويين في هذا الشأن: إنه يندر وجود نظام تعليمي بلا أزمة، وإن وجد ذلك النظام الذي بلا أزمة فأزمته أنه بلا أزمة.

سمو الأمير: أنا لا أشك أن كثيراً من المشكلات أو الأزمات التي تكبلنا اليوم يمكن تجنبها لولا قصر نظرتنا المستقبلية وانشغالنا المستغرق في أمورنا الآنية، فالمستقبل قبل وبعد كل شيء صناعة بشرية فلا يجوز أن يرى المرء المخاطر مقبلةً عليه دون أن يتهيأ لمواجهتها، فعليه أن يرفض أن يكون مرآة عاكسة لها، لأنه إذا ما عرفها وحللها وتعرّف على مسار حركتها في الماضي والحاضر والمستقبل فباستطاعته أن يعيد تشكيل التاريخ والزمن الآتي، إذن علينا يا سمو الأمير أن نصنع هذا التغيير المستقبلي بإرادتنا قبل أن تجرفنا الأحداث والمتغيرات المعلومة والمجهولة نحو خيارات لا حول لنا ولا قوة في التعامل معها، وإلى فقر حضاري مهين لا يلبث أن ينقلب إلى انتشار مظاهر العنف والفوضى والضياع.

سمو الأمير: إن شر ما يصيب التعليم اليوم هو أن يصبح قضية وزير وليست قضية الدولة، كل وزيرٍ يتولى مهام الوزارة يهدم ما بناه من قبله ويبدأ البناء من جديد وبالتالي تصبح برامجه بين مدٍ وجزرٍ تتناسخها الأيام والسنون حسب الاجتهادات غير الموفقة لمسؤول سابق أو لاحق، وليس هذا في نظري مجاراة لسنة التطور والتقدم، وإنما هو انخفاض وارتفاع كالزئبق الرجراج في ميزان الحرارة ينزل ويصعد بالوصيد حسب توجهات هذا الوزير أو ذاك. من هنا لا بد من التفريق بين سياسة الوزارة وسياسة الوزير، فما من وزارة في بلدٍ من بلدان العالم الحر الديمقراطي تقوم على سياسة فرد واحد مهما أوتي من صفات "كاريزمية" تُودي بمستقبل أجيال وتُشطب من سجلات التطور أسماء شباب وشابات كان من الممكن أن يكونوا جميعاً أوتاداً في أرض هذا الوطن.

سمو الأمير: لماذا عجزت التنظيرات التربوية المختلفة من أن تُشخص الواقع المتردي للتعليم وتُغير فيه؟ ثم لماذا فشلت المشاريع والتجارب التربوية عن تحقيق أهدافها؟ هل يرجع هذا إلى علة فيها؟ أو إلى نقصٍ في منطلقاتها ومبادئها؟ أم يرجع إلى صلابة المشكلة التعليمية والتربوية وإلى صعوبة اختراقها؟ أم يرجع إلى مقاومة التربويين المؤثرين لمبدأ التغيير؟.

سمو الأمير: إن تعليمنا-على الرغم من الميزانيات الضخمة المخصصة له- يقاسي أمراضاً معضلة ويتخبط في أزمات مُرّة، بسبب غياب سياسة تعليمية واضحة تأخذ في الاعتبار التحديات الآتية والتغيرات المتسارعة.... فالتعليم الثانوي لا يزال مرتبطاً بالتعليم الجامعي أكثر من ارتباطه بمطالب التنمية الشاملة، وقد أدى ذلك إلى ازدياد ظاهرة البطالة بين خريجيه بعد أن عجز التعليم الجامعي من استيعابهم- التلميذ الذي يقف على أبواب المدرسة وهو يملك جسداً متكاملاً فيه طاقات تريد أن تنطلق في جميع اتجاهات الحياة، من يعيقه؟ وماذا يعيقه؟ أعتقد أنها المدرسة المقيّدة بتقاليد موروثة، والتي تحولت في نظر التلاميذ إلى مجموعة قضبان حديدية لا تختلف عن السجن، وإذا كان السجن مكاناً ندخله عنوة عنا، فإن مدارسنا في واقعها الحالي سجون يأتي التلاميذ إليها طواعية- المعلم يا سمو الأمير، هل أُعطي حقه الذي يكفله النظام؟ وهل نال الرعاية التي يستحقها حتى يستطيع أن يؤدي دوره الخطير في المجتمع؟ المعلم عندنا مكدود مرعوب، وهو محاصرٌ بلوائح وزارته وأوامر مديره وتقرير مشرفه، وليس لديه إلا حرية الدفاع عن نفسه أمام اتهام المجتمع وقسوة المسؤولين.- الكتاب المدرسي محشو بالمعلومات بشكلٍ مشوش لا تنظمه سوى أكداس من المعلومات التي هي في الغالب فوق مدارك التلاميذ ومسائله غير واضحة المعالم والحقائق فيه متخلفة عن روح العصر، وحتى مقررات الرياضيات والعلوم الحديثة يشوبها الكثير من الضبابية والعتمة والتعقيد ليس على مستوى التلاميذ فحسب بل على مستوى المعلمين، لقد ألفنا يا سمو الأمير الكتاب المدرسي لتلاميذنا لنثقل ذاكرتهم بالمعلومات لا لنفتح حواسهم ومداركهم على استنباطها واستنتاجها، ولا لنمرنهم على المحاكمة والبحث الجاد والحوار الواعي- الإشراف التربوي "حامل لواء التطوير" أصبح يرقص مذبوحاً من الألم، ولا يقوى على الحركة في ظل تكبيله بأغلال الأنظمة والتعليمات وتهميش دوره في الهيكل التنظيمي الجديد في الوزارة، والذي تحول خلاله المشرف التربوي من مطوّر للعملية التعليمية / التعلمية إلى موظف إداري أشبه بساعي البريد، فضلاً عما تمخض عن الهيكل التنظيمي من ازدواجية وتضارب وتقاسم للأدوار بين المسؤولين بطريقة تعفي كلاً منهم من المسؤولية الأخيرة عن سوء أوضاع التعليم-- النشاط الطلابي، هل هو موجّه نحو تنمية شخصية التلميذ أم هو إحباط وتلميع؟ وهل أهدافه واضحة في أذهان العاملين فيه؟ وإلا لماذا التركيز على الفعاليات التي لها علاقة بالدعاية والإعلام؟ - المعلمون الخصوصيون، من أين جاءوا؟ وكيف جاءوا؟ ولماذا جاءوا؟ ومَن صاحب المصلحة في بقائهم؟ ثم ماذا يعني انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية والتي نافست السلع الاستهلاكية في الدعاية عنها حتى تحولت إلى تجارة مربحة استغلها الوافدون أسوأ استغلال "أنه يعكس مشكلة تعليمية أو خللاً في أسلوبنا التعليمي لم نتنبه له بعد!! - ثم هل اختيار القيادات التربوية على مستوى الوزارة وإدارات التعليم في ضوء معايير دقيقة ومقننة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين القيادات التربوية الخبيرة والخلاقة التي أُطيح بها أو تسربت أو اكتفت بالبقاء في دهاليز الوزارة تندب حظها وهي ترى غيرها أقل منها "خبرةً وتأهيلاً" في مواقع القيادة.- مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم والذي يهدف منه -حفظه الله- نقل التعليم في المملكة نقلة نوعية بحيث يكون تعليماً منافساً يتواكب مع متغيرات الألفية الثالثة وتحدياتها، ما المعايير التي تم في ضوئها اختيار القائمين عليه؟ ثم لماذا غيّبت الكفاءات المتميزة عن المشروع على مستوى الوزارة والميدان؟ ثم هل لدى القائمين على المشروع رؤية استراتيجية تعينهم على قيادة مسارات المشروع نحو تحقيق أهدافه؟ ثم ما الجديد في مدارس التطوير والتي لا تعدو عن كونها نسخاً كربونية للمدارس الرائدة، والتي هي بدورها نسخ كربونية للثانويات الشاملة الأربع التي طبقت في التسعينيات الهجرية؟ ثم هل جُربت هذه المدارس في بيئات مختلفة حتى نضمن نجاحها في مرحلة التعميم؟ أم أنها جُربت في بيئات متماثلة مما يحول دون تعميمها مستقبلاً؟ لماذا تشكّلت أوضاع المشروع بالصورة التي آلت إليه؟ ثم ما الرؤية المستقبلية لحركة المشروع في ملاءمته أو فعاليته مع الظروف والمتغيرات؟ وأخيراً ماذا حقق المشروع وقد استنفد مداه العمري؟ القضية يا سمو الأمير تحتاج إلى وقفة مراجعة وتأمل وإعادة تقويم حول كفاءة القائمين على المشروع حتى لا يكون مصيره مصير المشاريع التي سبقته. سمو الأمير: أمام مثل هذا الواقع الماثل " مع الفارق" والذي نرى من خلاله الهوة بين الجوهر والواقع، بين النظرية والتطبيق، بين التعليم والتعلم، بين السياسة العامة والتنفيذ الخاص، واجه الشعب الأمريكي أمته بشعار "الأمة في خطر" وألصق التهمة الأولى على التربية، فتم التغيير والتجديد وإعادة صياغة النظام التربوي، وفعلاً واجهوا التحديات الآتية فكان لهم ما أرادوا.

لذا فإن الأمر يا سمو الأمير لا يتعلق بمسألة إصلاح ما انتقص أو علاجات ترقيعية أو مسكنة فتلكم تجاوزتها الأحداث، نحن اليوم في حاجة أكيدة إلى كاسحات إلكترونية لنقوض بها هياكل التعليم التقليدية، ولسنا في حاجة إلى أعمدة خشبية نشد بها هذا الجدار أو ذاك الرواق، فالكل قد تداعت حالته وبات ينذر بالخطر المريع، صحيح أنه لا توجد حلول معلبة أو وصفات تربوية جاهزة للخروج من أزمة التعليم في بلادنا لكن قد تختلف وجهات النظر بشأن سبل التطوير، ولكننا في النهاية نتفق بشأن ضرورة وحتمية التطوير، أما فيما يختص بوسائل هذا التطوير فتكثر فيه الاتجاهات والآراء، ومن الضروري ألا نقيد الفكر التربوي أو نفرض عليه القيود، ولكن لا بد أولاً كمدخل للتطوير أن نعي جميعاً لكل مدخلات العملية التربوية التي تساهم بنصيبٍ وافر في تطوير المخرجات التعليمية التي ننشدها، لعلنا نتفق-يا سمو الأمير- أن هناك حاجةً ملحة وإجماعاً مطلقاً على أن النظام التربوي في المملكة يحتاج إلى إصلاح جذري يتناول فلسفته ومناهجه وأساليبه، ويشمل كل مراحله وكل أنواعه وأطرافه، وذلك من خلال صوغ استراتيجية مستقبلية تراعي ما اُستجد، وما سوف يستجد، ليس لمجرد إيجاد الحلول لقضايانا ومشاكلنا المتراكمة والمستجدة فحسب، وإنما لمواجهة تحدٍ عالمي جديد اسمه "العولمة". على ألا تخضع هذه الاستراتيجية- كما هو ماثل الآن- لظروف عابرة وعوامل آنية، بل علينا أن نطوّر هذه الظروف العابرة والعوامل الآنية، وأن نطوّعها ونعمل على صياغتها بما يلائم هذه الاستراتيجية، وإن لم نفعل ذلك فلن تشغل جزئيات الحياة اليومية ما تحتاج إليه من تفكيرنا فقط بل ستستغرق فكرنا وجهدنا واهتمامنا كاملاً، وتصبح أعمالنا غير عقلانية، ضبابية الدليل إن لم تكن عديمة، ونتوه في شعاب ركام من صغار الأمور وجزئياتها، ونعالج كل صغيرة وجزئية كأنها قضية كاملة قائمة بذاتها بمعزل عما جاورها أو بعد عنها، فننجح اليوم في صغيرة لنفشل غداً في أخرى، ونراوح بين نجاح اليوم وفشل الغد ومنعكسات اللاحق على السابق.

سمو الأمير: في كثيرٍ من الأحوال قد نقسو على واقعنا وأحواله، وبطء ما جرى فيه من تقدم، لكن ذلك من قبيل ما عبّر عنه نزار قباني "ولقد تضيق بكحلها الأهداب". هذه دعوة للخير صارخة، وتلك كلمات من الحق أرفعها لسموكم لعلها تُسهم في تحريك مياه التعليم الراكدة من أوضارها.. حفظكم الله وسدد خطاكم.

محمد عبدالعزيز الفهد
باحث وخبير تربوي ومدير إشراف سابق