المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( الآمال الكبيرة ) للكاتب الإنجليزي العالمي الشهير تشارلز ديكنز ..


زيتونةة
2013-01-29, 10:59 PM
الآمال الكبيرة
الفصل الأول
السجين الهارب

والدي من عائلة فيليب , واسمي أنا فيليب , فلم يستطع لساني الصغير أن ينطق من الاسمين أكثر من بيب . وهكذا دعوت نفسي بيب , وأصبح الجميع يناديني بيب . وبما أنني فقدت والدي منذ طفولتي , فقد نشأت إلى جانب شقيقتي السيدة جو غارجري التي تزوجت من الحداد .
كانت بلدتنا مليئة بالمستنقعات إلى جانب النهر على بعد عشرين ميلاً من البجر . وتعود ذاكرتي الأولى إلى بعد ظهر يوم بارد رطب يزحف نحو السماء . في ذلك الوقت , وجدت بلا ريب أن المكان المكسو بالأعشاب الغليظة , هو فناء الكنيسة , وأن والدي ووالدتي وإخوتي الخمسة دفنوا هناك , وأن البرية الممتدة ما وراء الفناء هي المستنقعات , والخط المنخفض الكئيب هو النهر ؛ والمنطقة النائية حيث تنطلق الرياح هي البحر , وأن الفتى الصغير الذي راح يخشى كل ذلك وبدأ بالبكاء هو بيب .
صاح صوت رهيب : " توقف عن الضجيج . " وظهر رجل من بين القبور . " اهدأ أيها الشيطان الصغير وإلا قطعت حنجرتك . "
كان رجلاً مخيفاً , يرتدي ثياباً رمادية قاتمة وتحيط بساقه أغلال ضخمة . كان بدون قبعة , ينتحل حذاءً بالياً , وقد ربط رأسه بخرقة قماش رثة راح يعرج ويرتعش ويصطك أسنانه في فمه , فيما أمسك بذقني ... رجوته خائفاً : " لا تقطع حنجرتي سيدي , أرجوك , لا تفعل ذلك سيدي . "
فقال الرجل : " قل لنا ما اسمك , بسرعة . "
" بيب , سيدي . "
فقال الرجل وهو يحدق بي : " مرة ثانية , تكلم . "
" بيب , بيب سيدي . "
قال : " أين تسكن ؟ هيا أشر إلى حيث تسكن . "
فأشرت إلى حيث تقع قريتنا , على بعد ميل أو أكثر من الكنيسة .
وبعدما حدق بي الرجل لدقيقة , قلبني رأساً على عقب وأفرغ جيوبي . لم يكن بداخلها شيء سوى كسرة من الخبز . تناولها وراح يلتهمها بشراهة . ثم قال وهو يلعق شفتيه : " أيها الكلب الصغير , لديك وجنتان ممتلئتان . "
أعتقد أنهما كانتا ممتلئتين , مع أنني إذ ذاك كنت أبدو أصغر حجماً من سني , وهزيل القوة .
سألني عن مكان والدي ووالدتي , وعندما أشرت إلى قبريهما , سألني مع من أسكن فأخبرته أنني مع أختي زوجة الحداد جو غارجري .
عندما سمع كلمة حداد , نظر إلى ساقه ثم راح ينظر إلي . فأمسك بي بذراعيه وأوعز إلي أن أحضر له في الصباح الباكر مبرداً وبعض الطعام , وإلا فسيقتلع كبدي وقلبي . لم أستطع التفوه بكلمة , فتابع يقول : " لست بمفردي كما تظن , هناك شاب مختبئ معي , وأنا ملاك قران معه . إن ذلك الشاب يستمع إلى كلماتي , إن له طريقة خاصة به للحصول على الأولاد وعلى أكبادهم وقلوبهم . وعبثاً يحاول الفتى الاختباء من هذا الشاب .
وعدته بأن أحضر له المبرد وما أستطيع إحضاره من فتات الخبز , وتمنيت له ليلة سعيدة . عرج نحو جدار الكنيسة المنخفض وخطا فوقه , ثم التفت لينظر إلي . حين رأيته ينظر إلى , توجهت صوب المنزل وانطلقت بأقصى سرعتي ...

يتبع ...

زيتونةة
2013-01-29, 11:01 PM
الفصل الثاني
أصبحت لصا

شقيقتي السيدة جو غارجري تكبرني بعشرين عاماً , وهي طويلة القامة , نحيلة الجسم , بسيطة المحيّا . وقد كونت لنفسها مقاماً رفيعاً بين الجيران لأنها تولت تنشئتي على يديها . وفيما كنت أرغب باكتشاف مدلول هذا التعبير , علماً بأن لديها يداً قاسية ثقيلة تلقي بها عادة عليّ وعلى زوجها , فقد افترضت أنني نشأت مع جو غارجري على اليد .
كان جو رجلاً لطيفاً . شعره بني فاتح وعيناه زرقاوان . كان رجلاً ليناً , طلق المحيّا , بسيطاً , وقريباً إلى القلب .
حين أسرعت إلي البيت عائداً من باحة الكنيسة , كان دكان جو المحاذي لبيتنا مقفلاً . وكان جو يجلس في المطبخ بمفرده .
وبما أنني وجو كنا رفيقين في التعاسة , فقد أفضى إلي أن شقيقتي خرجت عدة مرات تبحث عني وهي تحمل عصا بيدها . وما لبث أن رآها قادمة , حتى نصحني بأن أختبئ خلف الباب , فعملت بنصيحته على الفور .
دفعت شقيقتي بالباب على مصراعيه , وحين وجدت ما يعقبه من الخلف , أدركت السبب بسرعة , فانهالت عليّ بالعصا , وانتهت بإلقائي على جو الذي كان يسره الإمساك بي في مطلق الأحوال , فوضعني في زاوية المدفأة وأحاطني بساقه الضخمة .
قالت السيدة جو وهي تضرب الأرض بساقها : " أين كنت أيها القرد الصغير ؟ أخبرني بسرعة أين كنت لتقلقني وتهلكني بالبحث عنك ؟ أو اقتلعتك من هذه الزاوية حتى لو كنت خمسين بيب وهو خمسمائة جو غارجري . "
فقلت وأنا أبكي وأحك جسدي : " ذهبت إلى فناء الكنيسة فقط . "
فردت قائلة : " فناء الكنيسة ! لولاي لكنت في فناء الكنيسة منذ زمن بعيد , ولبقيت هناك إلى الأبد . "
انكبت تجهز الشاي ؛ فمسحت رغيفاً بالزبدة وقطعت قطعة سميكة ما لبثت أن قطعتها ثانية إلى نصفين , نال جو أحدهما وأنا نلت النصف الآخر . رغم أنني كنت جائعاً , لكنني لم أجرؤ على أكل قطعتي إذ يجب أن أحتفظ بشيء احتياطي لصاحبي المخيف وحليفه الذي كان بدوره أكثر رعباً منه . انتظرت لحظة لم يكن جو ينظر إلي , وخبأت قطعة الخبز المدهونة بالزبدة تحت سروالي .
اندهش جو حين رأى أن قطعتي اختفت فجأة , وظن أنني ابتلعتها دفعة واحدة . وكذلك اعتقدت شقيقتي التي أصرت على إعطائي دواءً مقيتاً اسمه : ( ماء القار ) .
أما الفكرة الآثمة بسرقة السيدة جو , إضافة إلى إبقاء يدي على قطعة الخبز والزبدة أثناء الجلوس والسير , فقد ذهبت بعقلي . وسررت إذ تدبرت الانسلال وخبأتها في غرفتي .
عند سماع طلقات نارية , سألت جو عن السبب فقال : " لقد فر مجرم آخر . وكان قد فر واحد آخر في الليلة الماضية من سفينة الاعتقال , وأطلقوا النار تحذيراً . ويبدو الآن أنهم يطلقوها تحذيراً من آخر . "
رحت أطرح الكثير من الأسئلة عن المجرمين وعن سفن الاعتقال حتى ضاقت بي شقيقتي ذراعي , فأخبرتني أن الناس يودعون في سفن الاعتقال لأنهم يقتلون ويزورون ويسرقون , وأنهم يبدؤون دائماً بطر الأسئلة .
وفيما كنت أصعد إلى غرفة نومي في الظلام , بقيت أفكر في كلماتها , والرعب يملأ قلبي . فمن الواضح أنني في الطريق إلى سفينة الاعتقال لأنني بدأت بطرح الأسئلة , وكنت أنوي سرقة السيدة جو .
أمضيت ليلة رهيبة ملئية بالأحلام المخيفة . وحالما بزغ الفجر , تسللت إلى غرفة التموين التي كانت تغص بالأغراض والمؤن بسبب موسم الميلاد . سرقت بعض الخبز وقطعة من الجبن قاسية , ونحو نصف جرة من اللحم المفروم , وبعض الشراب من قنينة حجرية و وعظمة مكسوة بقليل من اللحم , وفطيرة مستديرة جميلة ظننت أنها لم تكن قيد الاستهلاك السريع , وإنه لن يتم البحث عنها إلا بعد فترة من الزمن .
وبعد أن تناولت مبرداً كذلك من بين عدة جو , هرعت إلى المستنقعات المكسوة بالضباب .

زيتونةة
2013-01-29, 11:02 PM
الفصل الثالث
الرجل الآخر

كان الصباح بارداً جداً وشديد الرطوبة . وكان الضباب من الكثافة في المستنقعات حتى بدا وكأن كل شيء يتراكض نحوي .
كنت أتقدم نحو النهر , لكن مهما أسرعت فلن أستطع تدفئة قدمي . كنت أعرف طريقي نحو الحصن , لكنني وسط ذلك الضباب الكثيف , اكتشفت أنني سرت بعيداً جداً إلى اليمين , وعلي بالتالي العودة إلى خط النهر . ولم أكد أعبر حفرة حتى وجدت الرجل جالساً أمامي . كان ظهره مواجهاً إلي , وقد ثنى ذراعيه , فيما رأسه يطأطي بالنوم .
ظننت أنه سيكون أكثر سروراً لو أتيته بفطوره بهذا الأسلوب غير المنتظر , فتقدمت إليه ومسته على كتفه . فقفز بسرعة , لكنه لم يمن الرجل ذاته , بل كان رجلاً آخر .
على أن هذا الرجل كان يرتدي ملابس رمادياً كذلك وتحيط بساقيه أغلال حديد , كما كان يعرج ويرتعش , ويشبه الرجل الآخر تماماً , باستثناء الفرق في الوجه . شتمني ووجه إلي ضربة أخطأتني . وما لبث أن توارى في الضباب .
قلت : " إنه الشاب . " وأنا أشعر بقلبي يقفز من مكانه لدى إدراكي ذلك . كدت أشعر بألم في كبدي أيضاً لو علمت أين هو .
وسرعان ما بلغت الحصن حيث كان الرجل الصحيح بانتظاري . كان يعاني من برد قارس والجوع الشديد يظهر في عينيه . وما كدت أفتح حزمتي وأخرج ما في جيوبي حتى بدأ يأكل بسرعة فظيعة , ثم توقف ليتناول بعض الشراب . كان يرتجف وهو يبتلع اللحم المفروم والخبز والجبن والفطيرة , كلها دفعة واحدة , ثم يحدق بنظرات ملؤها الشك , وغالباً ما يتوقف ليدقق السمع . ثم قال فجأة : " هل أنت حقاً شيطان صغير مخادع ؟ هل أحضرت معك أحد ؟ "
" كلا سيدي , كلا . "
" ولا طلبت من أحد أن يتبعك ؟ "
" كلا . "
" حسناً , إني أصدقك . لكن لابد أنك كلب صغير عنيف إن استطعت في سنك هذا أن تسهم في مطاردة رجل مسكين مثلي . "
وفيما جلس يأكل الفطيرة بشراهة واختلاس , قلت له أنني أخشى ألا يترك شيئاً للشاب . فأخبرني بما يشبه الضحك الغليظ أن الشاب لا يريد أي طعام . فقلت أنني أعتقد أنه ربما يريد طعاماً , وبأنني رأيته لتوي يرتدي مرتدياً مثله , وتحيط بساقه أغلال الحديد , ثم أشرت إلى حيث التقيت به . فسأل بانفعال إن كانت هناك آثار كدمة على خده الأيسر , وحين أجبته بنعم , أمرني بأن أرشده إليه . وبعد أن أخذ المبرد مني , جلس على العشب الرطب وأخذ يبرد أغلاله كالمجنون . وخشية أن أطيل البقاء خارج المنزل , تسللت بعيداً وتركته يعمل بجهد في معالجة أغلاله ...
يتبع ...

زيتونةة
2013-01-29, 11:04 PM
الفصل الرابع
العم بامبلتشوك

كنت أتوقع أن أجد شرطياً ينتظرني في المطبخ لإلقاء القبض علي . لكن لم يكن هناك شرطي , ولم يتم اكتشاف السرقة بعد ...
كانت السيدة جو منهمكة في تجهيز المنزل لاحتفال النهار . إذ ينبغي علينا تحضير عشاء فاخر يتكون من فخذ عجل مع الخضار وزوج من الطير المحشي المحمر . سبق أن تم تحضير فطيرة محشوة صباح البارحة , ووضعت الحلوى على النار . في غضون ذلك , علقت السيدة جو ستائر بيضاء نظيفة ، ورفعت الأغطية ـ التي لم تكن لترفع إلا في هذه المناسبة ـ من غرفة الجلوس الصغيرة عبر الممر . كانت السيدة جو ربة منزل نظيفة للغاية , لكن طريقتها في النظافة كانت من الغرابة حتى استحالت أكثر ارهاقاً من القذارة نفسها .
كان السيد ووبسيل , الكاهن في الكنيسة , مدعو للعشاء معنا , كذلك السيد هابل , صانع العجلات , والسيدة هابل ؛ والعم بامبلتشوك , ( عم جو , لكن السيدة جو كانت تناديه عمها . ) وهو تاجر ذرة ميسور الحال في البلدة القريبة , يقود عربته الخفيفة بنفسه , كان موعد الغداء في الواحدة والنصف , وعندما رجعت مع جو من الكنيسة إلى البيت , وجدنا المائدة جاهزة , والسيدة جو قد ارتدت ملابسها . وطعام الغداء قيد الإعداد , وقد فتح الباب الأمامي لدخول الضيوف . كان كل شيء في غاية الروعة والبهاء . وحتى ذلك الوقت , لم تصدر كلمة بشأن السرقة . وها قد حان الوقت دون أن يحمل معه ما يخفف عن مشاعر قلقي , ودخل الضيوف .
قال العم بامبلتشوك , وهو رجل بطيء في متوسط العمر يتنفس بصعوبة , فمه كالسمكة وعيناه كئيبتان وشعره رملي اللون منتصب في رأسه : " أحضرت لك , كهدية للموسم ـ أحضرت لك سيدتي زجاجة من نبيذ الكرز , كما أحضرت لك سيدتي زجاجة من نبيذ البورت . "
في كل يوم عيد ملاد , كان يتقدم بالكلمات نفسها , ويحمل كلتا الزجاجتين كأثقال للتدريب . وفي كل عيد ميلاد , كانت السيدة جو تجيب بنفس ما أجابت الآن : " أوه , عمي بامبلتشوك , هذا لطف منك ! "
وكان في كل عيد ميلاد يجيب مثلما أجاب الآن : " هذا لا يتعدى مقدار فضائلك . والآن , هل أنتم جميعاً على ما يرام ؟ وكيف حال سيكسبنوورث ؟ " وكان يقصدني بذلك .
في مثل هذه المناسبات كنا نتناول الطعام في المطبخ , ثم نعود إلى غرفة الجلوس لنتناول المكسرات والبرتقال والتفاح . وسط هذه المجموعة الطبية , لابد أنني شعرت بنفسي , وإن لم أسرق غرفة المؤونة , في وضع خاطئ . ليس لأنني كنت محشوراً عند زاوية غطاء الطاولة الحادة , حيث تبلغ الطاولة مستوى صدري وكوع بامبلتشوك في عيني , ولا لأنه لم يسمح لي بالحديث ( فأنا لم أكن أرغب بالكلام ) , أو لأن نصيبي من الطعام كان عظام الطير وقطع اللحم الهزيلة . كلا , لم أكن أكترث بكل هذه الأمور لو أنهم تركوني وحيداً . لكنهم لم يكن ليفعلوا ذلك . بل بدا باعتقادهم أنهم سيفوّتون الفرصة لو فشلوا في توجيه الحديث نحوي من حين لآخر , والتركيز علي .
بدأ ذلك لحظة جلوسنا إلى المائدة . إذ تلى السيد ووبسل صلاة قصيرة انتهت بالأمل بأن نكون من الشاكرين . هنا ركزت شقيقتي نظرها إلي وقالت بنبرة تأنيب : " هل سمعت ذلك ؟ كن شكوراً . "
وقال السيد بامبلتشوك : " على الأخص , كن شكوراً أيها الفتى لمن رباك على يديه . "
كان موقف جو ونفوذه أضعف عند حضور الضيوف منه حين لا يكون هناك أحد . لكنه كان يساعدني دائماً ويهدئ من روعي , حين يتسنى له بطريقته الخاصة . وكان يفعل ذلك عادة في وقت الغداء حيث يقدم لي المرق إذا توفر . وبما أن هناك الكثير من المرق اليوم , فقد سكب في صحني . إزاء تلك الملاحظة , نحو نصف باينت .
قالت السيدة هابل متعاطفة مع شقيقتي : " كان مصدر إزعاج لك , سيدتي ؟ "
فردت شقيقتي قائلة : " ازعاج ؟ ازعاج ؟ "ثم تطرقت إلى بيان رهيب بجميع العلل التي تسببت بها , وحالات الأرق التي اقترفتها , وجميع الأمكنة المرتفعة , التي سقطت منها , وجميع الأماكن المنخفضة التي سقطت فيها , وكافة الجروح التي سببتها لنفسي , وجميع الأوقات التي تمنت فيها أن أكون في قبري , لكنني رفضت بعناد الذهاب إليه .
قالت شقيقتي : " تناول بعض الشراب يا عمي . "
رباه ! لقد حل الأمر أخيراً ! فسيجد الشراب خفيفاً ويقول إنه كذلك . شعرت بالضياع , أمسكت برجل الطاولة تحت الغطاء بكلتا يدي وانتظرت مصيري .
ذهبت شقيقتي وأحضرت القنينة الحجرية , وعادت بها وصبت له الشراب , دون أن يتناول منه أحد غيره . تناول الرجل المسكين كوبه ونظر إليه خلال الضوء , ثم وضعه ثانية , مما زاد في تعاستي . إبّان ذلك , كانت السيدة جو وزوجها السيد جو منهمكين في إخلاء المائدة لإحضار الفطيرة والحلوى .
لم أستطع تحويل نظري عنه . بل بقيت ممسكاً برجل الطاولة بإحكام بيدي ورجلي , ورأيت الرجل التعيس يمسك بكوبه ويبتسم , ثم يرجع برأسه للوراء ليشرب الكوب بأكمله . في الحال , حلّ بالحاضرين رعب بالغ حين قفز الرجل واقفاً واستدار عدة مرات وهو يسعل ويشهق على نحو رهيب,ثم اندفع نحو الباب وبدا من خلف النافذة وهو يسعل ويكشّر وجهه بشكل شنيع كأنه فقد عقله .
بقيت ممسكاً بإحكام , فيما السيدة جو وجو هرعا إليه . لم أدر كيف فعلت ذلك , لكن لم يساورني شك بأنني قتلته بشكل أو بآخر . في مثل الحال الرهيب الذي تملكني , فقد ارتحت حين أعادوه , وبعدما جال بنظره على الحاضرين وكأنهم لا يوافقونه الرأي,غاص في مقعده وهو يلهث بشدة قائلاً ببطء : " القار . "
لقد ملأت القنينة من إبريق ماء القار . وكنت أعلم أن حالته ستسوء تدريجياً .
فصاحت شقيقتي : " قار ! كيف ؟ كيف يمكن للقار أن يصل إلى هناك ؟ "
طلب العم بامبلتشوك بعض المشروب الحاد مع الماء . وكان على شقيقتي , التي راحت تفكر بقلق , أن تنهمك بإحضار الشراب والماء الساخن والسكر وقشر البرتقال ومزجها معاً . لقد نجوت بجلدي , مؤقتاً على الأقل .فقالت شقيقتي تخاطب ضيوفها بألطف لهجة لديها: " لابد أن تتذوقوا , في النهاية , هدية العم بامبلتشوك اللذيذة البهيجة . "
هل لابد لهم من ذلك ؟ ليتهم لا يفعلون ذلك !
قالشقيقتي وهي تنهض : " لابد أن تعلموا أنها فطيرة , فطيرة لذيذة . "
تمتم الحاضرون عبارات المجاملة , وذهبت شقيقتي لإحضارها , فسمعت خطواتها باتجاه غرفة المؤونة . ثم رأيت السيد بامبلتشوك يوازن سكينته بيده , فشعرت أنني لن أستطيع التحمل أكثر من ذلك , وأن علي الهرب . فتركت رجل الطاولة وأسرعت للنجاة بنفسي .
لم أكد أبتعد أكثر من الباب حتى اصطدمت بمجموعة جنود مزودة بالبنادق , وقد أمسك أحدهم أصفاداً فوجهها نحوي وقال : " ها أنت هنا , أنظر جيداً , وتعال ! "
يتبع ...

أمجــااد
2013-01-30, 04:27 PM
مووضوع راائع دلوو

وإلـى الاماام

نونا 14
2013-01-30, 06:51 PM
Read this novel in English ( Great Expectation ) , It is very nice novel Go ahead Zitoooona

زيتونةة
2013-01-30, 07:28 PM
تسلمووو ع المرور ..

زيتونةة
2013-01-30, 07:30 PM
الفصل الخامس
المطاردة

تسبب وصول الجنود بقيام الضيوف عن المائدة بارتباك , وحمل السيدة جو العائدة إلى المطبخ خالية اليدين حملها على الوقوف والتحديق متسائلة : " إلهي ! ما الذي حدث للفطيرة ؟ "
فقال الرقيب : " عذراً أيها السيدات والسادة , إنني أقوم بمطاردة باسم الملك , وأريد الحداد . "
وأوضح الرقيب من ثم أن قفل أحد الأصفاد قد تعطل , وحيث أنهم بحاجة إليها على الفور , فقد طلب إلى الحداد التدقيق فيها . حين أخبره جو أن الأمر يستغرق نحو ساعتين , طلب إليه الرقيب المباشرة بالعمل فوراً , وأوعز إلى رجاله لمساعدته .
كنت في حال من الخوف الشديد . لكن حين أدركت أن القيود لم تكن لي , وأن وصول الجنود أنسى شقيقتي أمر الفطيرة , استجمعت بعضاً من أفكاري المشتتة .
سأل السيد ووبسل الرقيب إذا ما كانوا يطاردون أحد المجرمين , فأجابه : " نعم , اثنين . ومعلوم أنهما ما يزالان في المستنقعات , ولن يحاولا الخروج منها قبل الظلام . فهل شاهد أحدكم أي أثر لهما ؟ "
الجميع , باستثنائي , نفى ذلك بشيء من الثقة . ولم يفكر أحد بي , خلع جو معطفه وصدرته وارتدى وزرته الجلدية , ثم توجه إلى دكانه . أشعل أحد الجنود النار وأخذ الثاني ينفخ بالمنفاخ , فيما تحلق الباقون حول النار التي ما لبثت أن تأججت . ثم بدأ جو يعمل بالطرق , ووقفنا جميعاً نراقبه .
في النهاية أنجز جو المهمة , وتوقف الطرق والرنين . وفيما كان جو يرتدي معطفه , اقترح أن يذهب بعضنا مع الجنود لمشاهدة نتيجة المطاردة . فقال السيد ووبسل إنه سيذهب لو فعل جو . ووافقت السيدة جو , بدافع من الفضول لتعرف ما سيحدث وما سينتهي إليه الأمر , وافقت على ذهاب , وسمحت لي بمرافقته .
لم ينضم إلينا أحد من القرية , فالطقس كان بارداً ينذر بالمطر , والطريق مظلم والليل بدأ يزحف . أشعل الناس المواقد في بيوتهم وقبعوا أمامها . هطل البارد علينا عند خروجنا من ساحة الكنيسة متجهين نحو المستنقعات , فحملني جو على ظهره .
اتجه الجنود نحو الحصن القديم , وكنا نسير وراءهم على بعد مسافة قصيرة حين توقفنا فجأة . إذ حملت إلينا أجنحة الريح والمطر , صيحة طويلة . ثم تكرر ذلك . وبدا أن صيحتان أو أكثر تنطلقان معاً . وكلما اقتربنا من الصياح , كنا نسمع صوتاً ينادي : " جريمة ! " وآخر ينادي : " مجرمون ! فارون ! حراس ! هذه هي الطريق إلى السجناء الفارّين . " بعد ذلك بدا وكأن الصوتان يختنقان في عراك لينطلقا من جديد . حين سمع الجنود ذلك , ركضوا كالغزلان , وكذلك فعل جو .
قال الرقيب لاهثاً وهو يصارع في أسفل حفرة : " هنا يوجد الرجلان , استسلما كلاكما , اللعنة عليكما أيها الوحشين ! تقدما كل على حدة . "
كانت الماء تتناثر والوحل يتطاير والشتائم تنهال والضربات تسدّد حين نزل مزيد من الرجال إلى الحفرة لمساعدة الرقيب , فسحبوا المجرمين كل على حدة . كان كلاهما ينزفان ويلهثان ويلعنان ويكافحان , ولا غرو فقد عرفتهما مباشرة .
قال المجرم صاحبي : " تذكر ! " وهو يمسح الدم عن وجهه بأكمامه الممزقة , ويزيل الشعر المنتوف عن أصابعه , " لقد ألقيت القبض عليه وسلمته لكم ! تذكروا ذلك ! "
فقال السرجنت : " ليس هذا بالأمر الهام . لن ينفعك هذا كثيراً يا صاحبي , فأنت مجرم فارّ . عليك بالأصفاد . " كان السجين الآخر مصاباً , وقد تمزقت جميع ثيابه .
وأول ما قال : " انتبه أيها الحارس ! لقد حاول أن يقتلني . "
فقال المجرم صاحبي بازدراء : " حاولت أن أقتله ؟ حاولت ولم أفعل ؟ لقد اعتقلته وها أنا أسلمه . هذا ما فعلته . إنني لم أمنعه من الهرب خارج المستنقعات وحسب , بل سحبته إلى هنا ـ سحبته كل هذه المسافة . إنه سيد وقور , لو سمحت , هذا الحقير . والآن فقد استعادت سفينة الاعتقال سيدها ثانية بواسطتي . وهل أقتله ؟ فهو لا يستحق أن أقتله في حين أستطيع القيام بما هو أسوأ , وأعيده ثانية . "
كان الرجل الآخر ما يزال يلهث : " لقد حاول ـ لقد حاول أن يقتلني . اشهدوا ـ اشهدوا على ذلك . "
فقال المجرم الآخر للرقيب : " انظر هنا , لقد أفلتّ من سفينة الاعتقال وحدي ـ وقمت بهجوم وحققت ذلك . كان بإمكاني كذلك الإفلات من هذه المستنقعات الباردة ـ أنظر ‘لى قدمي : فلن تجد أثراً للحديد فيها ـ لو لم أكتشف وجوده هنا . وهل أدعه يذهب طليقاً ؟ وأتركه يستفيد من لاوسائل التي اكتشفتها ؟ أأدعه يستغلني ثانية ؟ مرة أخرى ؟ لا , لا , لا . لو مت في الأسفل لبقيت ممسكاً به بهذه القبضة , حيث كنت ستجده في قبضتي بالتأكيد . "
قال الرقيب : " كفى هذا الجدال . أضئ تلك المشاعل . "
وفيما التفت المجرم صاحبي للمرة الأولى , وقع نظره علي . كنت قد نزلت عن ظهر جو حين وصلنا المكان , ولم نتحرك منذ ذلك الوقت . تطلعت إليه بتوقٍ حين نظر إلي . وحركت يدي قليلاً وأومأت برأسي . كنت أنتظر أن ينظر إلي , لعلي أستطيع تأكيد براءتي إليه . رمقني بنظرة لم أفهمها , وقد حصل كل ذلك بلحظة . أضيئت المشاعل , وأعطى الرقيب أوامره للسير . بعد ساعة تقريباً , وصلنا إلى كوخ خشبي , بال قرب مرسى للقوارب . كان هناك حارس داخل الكوخ , يضع ما يشبه التقرير , ويدون أمراً في سجل لديه . اقتيد المجرم الذي أدعيه المجرم الآخر , برفقة حارسه إلى متن السفينة أولاً .
وفجأة التفت المجرم صاحبي للرقيب واعترف لدهشة الجميع ـ أنه سرق من بيت الحداد بعض الطعام وفطيرة وبعض المشروب . عاد الزورق , وكان حارسه جاهزاً , فتبعناه إلى مكان المرسى ورأيناه يصعد إلى القارب الذي كان يجذفه مجموعة من المجرمين أمثاله .
هتف واحد من الزورق وكأنه يتحدث مع كلاب : " افسحوا الطريق . " وكان يعني بذلك بدأ التجذيف . ومن خلال ضوء المشاعل , رأينا الشفينة السوداء على مسافة قصيرة من وحل الشاطئ , وكأنها سفينة نوح .
وبدت السفينة لعينيّ الصغيرتين وهي محاطة ومقيدة بسلال ضخمة صدئة كأنها مقيدة بالحديد كالسجناء . رأينا الزورق يمر بجانبها , ورأيناه يُقتاد إليها ثم يختفي ...

زيتونةة
2013-01-30, 07:32 PM
الفصل السادس
الآنسة هافيشام

حين كبرت , عُهد بي إلى جو للتدرب لديه , وحتى ذلك الحين كنت غريباً في دكان الحداد , وعلاوة على ذلك , فكلما احتاج الجيران إلى صبي إضافي لتخويف الطيور أو جمع الحصى أو القيام بمثل هذه المهام , كان الاختيار من نصيبي على الدوام .
خلال هذه الفترة , كنت أحضر مدرسة ليلية تديرها عمة والد السيد ووبسيل . كان لها أسلوب غريب في التعليم , إذ كان من عادتها أن تذهب للنوم من السادسة حتى السابعة كل مساء , فتترك التلاميذ يجتهدون بمراقبتها وهي تفعل ذلك .
إضافة إلى هذه المؤسسة التربوية , كان لدى العمة ـ في نفس الغرفة ـ دكان عام صغير . لم تكن لديها فكرة عما لديها في الدكان من بضاعة , أو عن أسعار السلع في الدكان , بل هناك سجل ملوث بالزيت , تحتفظ به في أحد الأدراج وتستخدمه كدليل للأسعار , فكانت بيدي , لاتي تربطها قرابة بعيدة بالسيد ووبسيل ؛ تستعين به لتدبير كافة عمليات الدكان . كانت يتيمة مثلي . وكمثل حالي قد أنشئت على اليد .
وبمعونة بيدي , أكثر من معونة يد عمة والد السيد ووبسيل,مررت في كفاح مع الأحرف الأبجدية , ولقيت القلق الشديد من كل حرف . لكنني بدأت في النهاية , بطريقة عشوائية عمياء , أقرأ وأكتب وأحسب على أقل المستويات .
لم يسبق لجو أن ذهب للمدرسة في طفولته . وفي إحدى الأمسيات , فيما كنا جالسين سوياً قرب النار , كتبت له رسالة على لوح حجري قدمته له . ورغم أنه لم يستطع أن يقرأ سوى اسمه , قال إنني عالم كبير , وأفصح عن إعجابه بما لدي من علم ومعرفة . ثم أخبرني عن فترة من تاريخ حياته . فقد كان والده مدمناً على الشراب , وغالباً ما كان يضرب جو ووالدته , وقد هربا منه عدة مرات , وكان عليهما العمل لكسب قوتهما , لكنه كان يعيدهما إليه في كل مرة . كان على جو العمل حداداً مكان والده الكسول , وأعال والده إلى أن وافته المنية , وما لبثت والدته أن لحقت بزوجها .
ثم تعرف جو إلى شقيقتي وطلب يدها للزواج , ورجاها أن تحضرني معها إلى المنزل , قاءلاً إن هناك مكاناً يتسع لي في دكانه . وقال جو في ختام روايته : " فأنت عترى يا بيب , ها نحن الآن ! فحين تساعدني في التعلم يابيب ( وأخبرك سلفاً بأنني بليد للغاية ) , لا ينبغي أن تلاحظ السيدة جو ما نقوم به . بل ينبغي أن يتم ذلك , إذا جاز لي القول , في الخفاء . ذلك أن شقيقتك تحب التحكم , ولن تقبل بوجود مثقفين في البيت ,ولن ترضى على الأخص أن أصبح مثقفاً , خشية أن أقف في وجهها ."
كدت أسأله " لماذا " حين قاطعني جو قائلاً : " تمهل قليلاً , أعرف ما ستقوله , تريد أن تعرف لماذا لا أقف في وجهها . حسناً , إن لشقيقتك عقلاً فذاً , لكنني لست كذلك . إضافة إلى ذلك يا بيب , إنني أرى كثيراً في والدتي المسكينة كامرأة تستبعد وتحطم قلبها الشريف دون أن تحصل على قدر من الطمأنينة في حياتها , حتى إنني أخشى أن أخطئ بعدم انتهاج ما تراه المرأة صحيحاً . وأفضل كثيراً أن أعاني شخصياً من التضايق بعض الشيء . حبذا لو أنني بمفردي أعاني من ذلك , حبذا لو لم يكن هناك إزعاج لك يا صديقي , ليتني أستطيع تحمل الأمر كله بنفسي , لكن هذا هو الحال يا بيب . آمل أن تتغاضى عن العيوب . "
رغم صغر سني , أظن أنني سجلت تقديراً جديداً لجو ابتداءً من تلك الليلة .
كانت السيدة جو تقوم بالتجول مع العم بامبلتشوك أيام التسوق لمساعدته في شراء حلجات المنزل التي تتطلب حكمة المرأة . كان ذلك يوم التسوق , وقد خرجت السيدة جو في إحدى هذه الجولات .
وها قد وصلا . قالت السيدة جو : " والآن . " وهي تخلع أغطيتها بسرعة وشيء من الإثارة , فتلقي بقبعتها إلى الوراء على كتفيها حيث تتدلى بسلاسل . " إن لم يكن هذا الفتى , شكوراً هذه الليلة , فلن يكون كذلك أبداً . "
بدوت شكوراً بأفضل ما يستطيعه فتىً , دون أن يعلم بعد لِم يجب أن يكون كذلك .
فقالت شقيقتي : " لنأمل فقط ألا يطاله الفساد , لكن لدي مخاوفي . "
قال السيد بامبلتشوك : " من غير المحتمل أنها ستفسده , سيدتي . فهي تعرف أكثر . "
هي ! نظرت إلى جو وأنا أحرك شفتي وحاجبي متسائلاً , " هي ؟ " فنظر جو إلي وهو يحرك شفتيه وحاجبيه .
قالت السيدة جو بطريقتها الفظة : " حسناً , بماذا تحدقان ؟ هل المنزل يحترق ؟ "
فأشار جو بأدب قائلاً : " هناك شخص ما ـ ذكرها . "
فقالت زوجته : " وهي هي , على ما أعتقد ! إلا إذا كنت تدعو الآنسة هافيشام هو . وأشك أنك ستذهب إلى هذا الحد . "
قال جو : " الآنسة هافيشام في المدينة ؟ "
قالت شقيقتي : " وهل يوجد في المدينة آنسة هافيشام؟إنها تريد من هذا الفتى أن يذهب ويلعب هناك . ولا شك سيذهب . فالأفضل له أن يلعب هناك . " وأضافت وهي تهز رأسها لي تشجعني أن أكون خفيفاً ورياضياً : " وإلا فسأتدبر أمره . " ... كنت قد سمعت أن الآنسة هافيشام في المدينة ـ والجميع على بعد أميال سمعوا أن الآنسة هافيشام في المدينة ـ سيدة في غاية الثراء والحزم , تعيش في منزل فخم كئيب وتحيا حياة منفردة .
فقال جو مندهشاً : " حسناً , أستغرب كيف لها أن تعرف بيب ! "
صاحت شقيقتي : " أيها الأحمق ! ومن قال إنها تعرفه ؟ "
أشار جو بأدب ثانية : " هناك من ذكر أنها تريده أن يذهب ويلعب هناك . "
" ألا يمكنها أن تسأل العم بامبلتشوك إذا كان يعرف فتى ليذهب ويلعب هناك ؟ ألا يحتمل أن يكون العم بامبلتشوك مستأجراً لديها , وأنه يذهب إلى هناك أحياناً لتسديد إيجاره ؟ وألا يستطيع العم بامبلتشوك , كونه طيباً تجاهنا دائماً ,أن يتكلم عن هذا الفتى الذي كنت منذ زمن خادمة مطيعة له؟ "
فصاح العم بامبلتشوك : ط أحسنت ثانية , أسلوب جيد . حسناً عبرت ! جيد حقاً ! والآن يا جوزيف فإنك تعلم بالأمر . "
فقالت شقيقتي : " كلا يا جوزيف , فأنت لا تعلم أن العم بامبلتشوك , علماً منه أن مستقبل الفتى سيتحقق بذهابه إلى الآنسة هافيشام , قد عرض أن يأخذه إلى المدينة هذه الليلة , وفي عربته الخاصة , وأن يستبقيه لديه هذه الليلة ثم يأخذه إلى بيت الآنسة هافيشام في الصباح التالي . "
بعد أن أوضحت هذا , أمسكت بي فجأة , فوضعت رأسي تحت حنفيه وغسلت رأسي بالصابون , ونشفتني حتى بدوت غير نفسي . ثم ألبستني ثياباً نظيفة من أجمد الأنواع , ثم ارتديت أضيق بذلاتي , وعُهد بي إلى السيد بامبلتشوك الذي ألقى علي خطاباً كنت أعلم أنه يحترق لإلقائه : " يا بني , كن مستحباً أبداً للأصدقاء , وخاصة الذين أنشؤوك على أيديهم . "
قلت : " وداعاً يا جو . "
" ليباركك الله يا بيب , أيها الصديق القديم . "
لم يسبق أن افترقت عنه من قبل , وماذا بشأن مشاعري وماذا بشأن رغوة الصابون , ولم أستطع رؤية نجمة من خلال العربة المكشوفة . لكنها راحت تلمع واحدة إثر أخرى , دون أن تلقي ضوءاً على التسائل : لماذا بالله أنا ذاهب لألعب عند الآنسة هافيشام , وماذا تراني ألعب ...

زيتونةة
2013-01-30, 07:37 PM
الفصل السابع
زيارات المذلة

تناولت الفطور مع السيد بامبلتشوك عند الساعة الثامنة في الرواق خلف دكانه , وعند العاشرة , توجهنا إلى بيت الآنسة هافيشام ووصلناه بعد ربع ساعة . كان منزلاً قرميدياً كئيباً , فيه الكثير من القضبان الحديدية , وقد سُدّت بعض النوافذ , أما النوافذ الباقية , فقد أحاطت القضبان الصدئة بالمنخفض منها . وكانت هناك ساحة أمامية مسيجة , فكان علينا الإنتظار بعد قرع الجرس ليأتي من يفتح لنا . وفيما كنا ننتظر أمام البوابة , استرقت النظر ورأيت أن إلى جانب المنزل مصنع كبير للجعة .
فُتحت نافذة ونادى أحدهم بصوت واضح يسأل : " ما الاسم ؟ "
أجاب دليلي : " بامبلتشوك . "
فقال الصوت : " بالتمام ؟ "
أُغلقت النافذة ثانية , وجاءت صبية عبر الساحة تحمل مفتاحاً بيدها . فقال بامبلتشوك : " هذا هو بيب . "
رددت الصبية بالقول : " هذا هو بيب , أليس كذلك ؟ "
كان السيد بامبلتشوك يدخل البوابة عندما اعترضته بالبوابة وقالت : " هل تريد أن تقابل الآنسة هافيشام ؟ "
أجاب بامبلتشوك : " إذا كانت الآنسة هافيشام تريد مقابلتي . "
قالت الفتاة : " آه , لكنك ترى أنها لا ترغب في ذلك . "
قالتها بحزم , حتى أن السيد بامبلتشوك لم يتسنى له الاحتجاج . لكنه رماني بنظرة حادة - وكأنني اقترفت شيئاً بحقه - ثم رحل وهو يقول : " أيها الفتى ! ليكن مسلكك مفخرة لمن أنشؤوك على أيديهم . "
أقفلت الصبية البوابة , وذهبنا عبر الساحة . كانت مرصوفة ونظيفة , لكن العشب كان ينمو بين الحجارة . أما أبنية مصنع الجعة فقد كانت مشرعة , وجميعها خالية ومهملة .
رأتني أنظر إلى المصنع , فقالت : " بإمكانك أن تشرب جميع أنواع الجعة التي تصنع هناك دون أن يصيبك ضرر أيها الفتى . "
قلت بشيء من الحياء : " أظن باستطاعتي ذلك سيدتي . "
" يفضل ألا تخمّر الجعة هناك الآن , وإلا فسدت , ألا تعتقد ذلك أيها الفتى ؟ "
" يبدو الأمر كذلك سيدتي . "
أضافت تقول : " ليس بمعنى أن يحق لأي إنسان المحاولة . فقد توقف كل ذلك , وسيبقى المصنع متوقفاً كما هو الآن , إلى أن ينهار . أما بالنسبة للجعة المركزة , فهناك منها في الأقبية ما يكفي لإغراق المزرعة . "
" هل هذا هو اسم المنزل سيدتي ؟ "
" أحد أسمائه أيها الفتى . "
وهل له أكثر من اسم سيدتي ؟ "
" اسم آخر . إنه ساتيس , وهو يعني باليونانية أو اللاتينية كافٍ . "
فقلت : " بيت كافٍ ! اسم غريب سيدتي . "
أجابت : " أجل , لكنه يعني أكثر مما يبدو . يعني أنه متى يتم تركه , فالذي يملكه بلن يحتاج لشيء آخر . لابد أنه كان يسهل إرضاؤهم في تلك الأيام على ما أعتقد , لكن لا تتلكأ أيها الفتى . "
رغم أنها كانت تدعوني (( فتى )) , مراراً ودون أي اكتراث , فقد كانت في مثل سني تقريباً . بدت أكبر مني بكثير طبعاً كونها فتاة جميلة تفاخر بنفسها . كانت تهزأ بي وكأنها في الواحدة والعشرين من عمرها , وكأنها ملكة .
دخلنا المنزل من باب جانبي , وأول ما لاحظته هو أن جميع الممرات مظلمة , وأنها تركت شمعة مضاءةً هناك . فتناولتْها وسارت في المزيد من الممرات ثم صعدنا درجاً كان بدوره شديد الظلمة , ولم تنر طريقنا سوى تلك الشمعة . في نهاية المطاف وصلنا باب غرفة , فقالت : " أدخل . "
ثم رحلت والشمعة معها .
أزعجني ذلك كثيراً وانتابني شيء من الخوف . لكنني قرعت الباب , فأوعز إلي صوت من الغرفة بأن أدخل . دخلت ووجدت نفسي في غرفة فسيحة تفيض بأنوار الشموع . لم يكن فيها أثر لضوء النهار . كانت هناك طاولة أنيقة للتجميل , وفي كرسي وثين تجلس أغرب امرأة رأيتها أو يمكن أن أراها في حياتي , وقد أراحت بكوعها وأناخت برأسها على تلك اليد .
كانت ترتدي ثياباً فاخرة كلها بيضاء , وكان حذاءها أبيض اللون , ويتدلى على شعرها غطاء طويل أبيض , وقد غرست في شعرها أزهاراً عرائسية , لكن شعرها كان أبيضاً . كانت بعض الجواهر المتلألئة تلمع حول عنقها ويديها , فيما كانت بعض الجواهر الأخرى تتلألأ على الطاولة . لم تكن قد انتهت من اللبس بعد , إذ لم تكن في قدمها سوى فردة حذاء واحد ـ فالأخرى كانت على الطاولة قرب يدها ـ ولم ترتد سلسلتها وساعتها بعد .
كل شيء حولي , مما يفترض أن يكون أبيض اللون , كان أبيضاً منذ زمن بعيد . وقد فقد بهجته , فبُهت واصفر لونه . العروس في ثوب العرس كانت ذابلة كثوبها , ولم يبق فيها بريق سوى بريق عينيها الغائرتين . كانت كتمثال شمع أو هيكل عظمي شاحب . نظرت إلي , وكنت سأصرخ لو استطعت ذلك .
قالت : " من هناك ؟ "
" بيب , سيدتي . "
" بيب ؟ "
" صبي السيد بامبلتشوك , سيدتي . جئت ـ لألعب . "
" اقترب , دعني أنظر إليك . اقترب أكثر . "
عندمل وقفت أمامها متجنباً نظراتها , لاحظت الأشياء المجاورة بالتفصيل , فوجدت أن ساعتها متوقفة عند التاسعة إلا ثلثاً . وأن ساعة الحائط كذلك متوقفة عند التاسعة إلا ثلثاً .
قالت الآنسة هافيشام : " انظر إلي , هل تخاف من امرأة لم تر الشمس منذ ولادتها ؟ "
أجيتها قائلاً : " كلا . " لكنها كانت كذبة .
" هل تعرف ما ألمس هنا ؟ "
" أجل , سيدتي . "
" ماذا ألمس ؟ "
" قلبك . "
" محطم . "
" نطقت الكلمة بنظرة شوق , ونبرة حازمة , وابتسامة غريبة بها شيء من المباهاة.
قالت الآنسة هافيشام : " إني متعبة وأريد شيئاً يسليني . لقد سئمت الرجال والنساء . إلعب . لدي هوى عليل في أن أرى البعض يلعب , هيا , هيا . "
وأشارت بأصابعها بتبرّم : " العب , العب . "
وقفت أنظر إلى الآنسة هافيشام في موقف أعتقد أنها اعتبرته أسلوباً معانداً . فقالت : " هل أنت حرون وعنيد ؟ "
" كلا , إني في غاية الأسف تجاهك , وآسف كثيراً لأنني لا أستطيع اللعب الآن . إن تذمّرت مني , سأقع في مشكلة مع شقيقتي . لذا سأفعل ذلك إن استطعت . لكن المكان هنا غير مألوف وغريب جداً . كما أنه في غاية الرهافة والكآبة . "
فتمتمت قائلة : " جديد للغاية بالنسبة له , وقديم للغاية بالنسبة لي . غريب جداً بالنسبة له , ومألوف جداً بالنسبة لي . وحزين للغاية بالنسبة لكلينا ! نادي على استيلا , نادي على استيلا عند الباب . "
فعلت ذلك , وعندما أتت هذه أشارت لها الآنسة هافيشام بأن تقترب . فتناولت جوهرة من على الطاولة لتجربها على صدرها الفتيّ الجميل قبالة شعرها البني اللطيف .
" ستكون لك ذات يوم يا عزيزتي , وستستخدمينها جيداً . دعيني أراك تلعبين الورق مع هذا الفتى . "
" مع هذا الفتى ! كيف ذلك , إنه فتى عامل عاميّ . "
أظن أنني سمعت جواب الآنسة هافيشام ـ لكنه بدا مقيتاً ـ " ماذا ؟ يمكنك تحطيم فؤاده ! "
فسألتني استيلا بازدراء بالغ : " ماذا تلعب أيها الفتى ؟ "
لا شيء سوى لعبة المتسوّل يا سيدتي . "
قالت الآنسة هافيشام لاستيلا : " افقريه . "
وهكذا جلسنا للعب الورق .
وفيما كانت استيلا توزع الورق , أومأت بنظرة ثانية إلى طاولة التجميل ورأيت أن الحذاء الذي عليها بات أصفر اللون بعد أن كان أبيضاً فيما مضى , ولم يرتده أحد . نظرت إلى القدم التي كانت بدون حذاء , فرأيت أن الجورب الذي يغطيها بات أصفر اللون بعد أن كان أبيضاً , فيما مضى وأصبح مهترئاً من كثرة الاستهلاك . قالت استيلا بازدراء قبل أن تنتهي من الدور الأول : " إنه يسمي ورقة الجندي شب , هذا الفتى ! تباً ليديه الخشنتين وحذاءه الغليظ ! "
لم يخطر لي أبداً أن أخجل من يدي من قبل ؛ لكنني بدأت أعتبرهما يدين كريهتين . كان احتقارها شديداً لدرجة أنه كان معدياً فاتقطته .
فازت بالدور , فقمت بتوزيع الورق . أخفقت في التوزيع , وكان ذلك طبيعياً , لعلمي أنها كانت تتربص لإخفاقي ودعتني بالفتى العامل الأحمق المرتبك .
توجهت إلى الآنسة هافيشام بالقول فيما كانت تراقبنا : " لم تقل عنها شيء , إنها تقول عنك أشياء جارحة , لكنك لا تقول عنها شيئاً . فما هو رأيك فيها ؟ "
فقلت متلعثماً : " لا أرغب في القول . "
قالت الآنسة هافيشام وهي تنحني : " اهمس في أذني . "
فأجبت هامساً " أعتقد أنها مغرورة . ط
" هل من مزيد ؟ "
" أعتقد أنها قاسية في التحقير . "
" هل من مزيد ؟ "
" أظن أنني أرغب بالعودة إلى البيت . "
" وأن لا تراها ثانية , رغم جمالها الفائق ؟ "
" لست متأكداً من أنني لا أريد رؤيتها ثانية , لكنني أود أن أعود للبيت الآن . "
ثم قالت الآنسة هافيشام بصوت مرتفع : " ستذهب بعد قليل , والآن أكمل اللعب . "
أكملت اللعب مع استيلا فهزمتني.ألقت بالورق على الطاولة بعدما فازت بها جميعاً, وكأنها تحتقر الورق بعدما كسبته مني . وتساءلت الآنسة هافيشام : " متى ستأتي ثانية ؟ دعني أفكر . عُد بعد ستة أيام . استيلا , خذيه إلى الطابق السفلي وقدمي له شيئاً يأكله . اذهب يا بيب . "
نزلت استيلا أمامي إلى الطابق الأسفل وهي تحمل شمعة , وحين فتحت البوابة الجانبية , أزعجني ضوء النهار المتوهج . فقالت : " انتظر هنا أيها الفتى . " ثم توارت وأغلقت الباب , وفيما أنا لوحدي في الساحة , نظرت إلى يدي الخشنتين وإلى حذائي الغليظ . لم يسبق أن تسببا بالإزعاج لي فيما مضى , لكنهما باتا مصدر إزعاج الآن . تمنيت لو أن جو نشأ على تربية ألطف , فأنشأ حين ذاك مثله .
عادت الفتاة بشيء من الخبز واللحم وإبريق صغر من الجعة . وضعت الإبريق على الأرض وأعطتني الخبز واللحم دون أن تنظر إلي , بما ينم عن بالغ الازدراء وكأنني كل حقير . شعرت بمذلة شديدة اغرورقت معها الدموع في عينيّ . رمقتني بنظرة فرح لأنها تمكنت من دفعي للبكاء . ثم انصرفت عني .
حين ذهبت , نظرت حولي أبحث عن مكان أخبئ فيه وجهي . وتواريت خلف أحد بوابات مصنع الجعة ورحت أبكي . في نهاية الأمر مسحت وجهي بكمي وخرجت من خلف البوارة . كان الخبز واللحم مقبولين وأثارت الجعة فيّ بعض الدفء .
وما لبثت أن جاءت تحمل المفاتيح لكي تفتح الباب. فتحت البوابة ووقفت تمسك بها. كنت أخرج من البوابة دون أن أنظر إليها حين لمستني تسأل : " لماذا لا تبكي ؟ "
" لأنني لا أريد ذلك . "
فقالت : " بلى . لقد كنت تبكي حتى غشي بصرك . وإنك الآن على وشك البكاء . "
ضحكت بازدراء ودفعتني إلى الخارج , ثم أقفلت البوابة خلفي . سرت إلى البيت في غمٍّ شديد وأنا أفكر بكل ما رأيت , وقد أدركت بالفعل أنني مجرد عامل عاميّ .

يتبع ...