رمال المدينه
2012-02-13, 07:07 AM
المربـي الناجح
http://a6.sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-snc7/402534_368369706507330_100000029117786_1496671_109 1904609_n.jpg
بداية القصة كانت حين كلفت بتدريس مادة القرآن الكريم والتوحيد للصف الثالث الابتدائي قبل نهاية الفصل الدراسي الأول بشهر واحد ، حينها
طلبت من كل تلميذ أن يقرأ، حتى أعرف مستواهم ، وبعدها أضع خطتي حسب المستوى الذي أجده عندهم . فلما وصل الدور إلى أحد التلاميذ ،
وكان قابعاً في آخر زاوية في الصف ، قلت له اقرأ.. قال الجميع بصوت واحد (ما يعرف، ما يعرف يا أستاذ ) ؛ فآلمني الكلام ، وأوجعني منظر
الطفل البريء الذي احمر وجهه ، وأخذ العرق يتصبب منه ، دق الجرس ، وخرج التلاميذ للفسحة ، وبقيتُ مع هذا الطفل الذي آلمني وضعه ،
وتكلمت معه ، أناقشه ، لعلي أساعده ، فاتضح لي أنه محبط ، وغير واثق من قدراته ، حتى هانت عليه نفسه ؛ لأنه يرى أن جميع التلاميذ أحسن
منه ، وأنه لا يستطيع أن يقرأ مثلهم ، ذهبت من فوري ، وطلبت ملف هذا الطفل ؛ لأطلع على حالته الأسرية ، فوجدته من أسرة ميسورة ، ويعيش
مع أمه ، وأبيه ، وإخوته ، وبيته مستقر، واستنتجت بعدها أن الدمار النفسي الذي يسيطر عليه ليس من البيت والأسرة ، بل إنه من المدرسة .
ويرجع السبب حتماً إلى موقف محرج عرض له من معلم ، أو زميل صده بعنف ، أو تهكم على إجابته ، أو قراءته ، شعر بعدها بهوان النفس
والإحباط، وأخذت المواقف المحرجة والإحباطات تتراكم عليه في كل حصة من المعلمين والزملاء ، عندها فكرت جدياً في انتشال هذا الطفل مما
هو فيه ، خاصة وأنني أعرف بحكم الخبرة مع الأطفال أن كل ذكي حساس، وكل ذكي مرهف المشاعر ، ولا يدافع عن نفسه ، ولا يدخل في
مهاترات قد يكون بعدها أكثر خسارة وبدأت معه خطتي ، بأن غيرت مكان جلوسه ، وأجلسته أمامي في الصف الأول ، وقررت أن أعطي هذا
التلميذ تميزاً لا يوجد إلا فيه وحده ، ليتحدى به الجميع ، وعندها تعود له ثقته بنفسه ، ويشعر بقيمته وإنسانيته بين زملائه ، خاصة بعد أن عرفت
قوة ذكائه .
كتبت له جملة صعبة النطق ، وأفهمته معاني كلماتها ، حتى يتخيلها فيسهل عليه حفظها كنا نرددها ونحن صغار، كتبتها على ورقة صغيرة ،
ووضعت عليها الحركات ، وقلت له: أحفظ هذه الجملة غيباً بسرعة ، ولا يطَّلع عليها أحد من أسرتك ، ولا من زملائك ، وراجعتها معه خلسة عن
أعين التلاميذ حين خرجوا إلى الفسحة ، إذ لم يكن هو حريصاً على الفسحة ، لأنه ليس له صاحب ولا رفيق ، وكنت قد عودت تلاميذي على أن
أروي لهم قصة في نهاية كل حصة شريطة أن يؤدوا كل ما أكلفهم به من حفظ وواجبات ، وإذا تعثر بعضهم أو أحدهم في الحفظ أو الواجب منعت
عنهم القصة ، ليساعدوا زميلهم المتعثر في حفظه ، أو واجبه ، ويعاتبوه لأنه ضيَّع عليهم القصة
.
بعدها التزم الجميع بواجباتي لهم؛ حفاظاً على رضاي، وتشوقاً إلى استمرار القصة وفي أحد الأيام ، وبعد أن قام الجميع بالتسميع طلبوا مني إكمال
قصة الأمس ، فقلت لهم: إلى أين وصلنا فيها ؟ قالوا: وصلنا عند السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ديار بني سعد ، ماذا حدث بعد ذلك ؟
فقلت لهم : لن أكملها لكم اليوم ، فتساءلوا جميعاً : لماذا يا أستاذ ؟ كلنا أدينا التسميع والواجبات ! قلت له م : عندي قصة جديدة ، أرويها لكم اليوم
فقط ، وغداً نعود لإكمال قصة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا وما هي ؟ فسردت عليهم قصة من خيالي ،من أجل أن أُدخل فيها الجملة
الصعبة التي حفظها ذلك الطالب وفهمها سلفاً ، وقلت لهم : إن هناك جماعة يسكنون قرية واحدة يقال لهم (القراقبة) ، كانوا يحتفلون بعيد الأضحى
، ويذبحون فيه البقر ، ويتفاخرون بذبائحهم ، حتى أن كل واحد منهم يربي بقرته من شهر الحج إلى شهر الحج سنة كاملة ، يغذيها بأجود الأعلاف
، حتى تكون سمينة ، وكان عند (علي القرقبي) بقرة يربطها أمام باب بيته في القرية ، وكانت أكبر وأسمن بقرة في القرية كلها ، والكل يتمنون متى
يأتي الحج ، وتذبح هذه البقرة، ليشربوا من مرقها ، ويأكلوا من لحمها ولكن المشكلة أن أهل القرية عندهم عادة هي أنهم إذا ذبحوا الأضاحي
يطبخون رقابها، ويضعون المرق في أوانٍ ، تجمع في المكان الذي يتعايدون فيه ، فدخل الشباب وأخذوا يتذوقون المرق من كل إناء، فصاح أحدهم
مفتخراً بذكائه: عرفتها، عرفتها، فقالوا له: ماذا عرفت؟ قال: (أنا عرفت مرقة رقبة بقرة علي القرقبي من بين مراق رقاب أبقار القراقبة) .وبعد هذه
العبارة قلت لتلاميذي: من الذكي الذي يعيد هذه العبارة، فتفاجئوا جميعاً ، وطلبوا مني إعادته ا، فأعدتها لهم، وقلت: من الذكي الذي يعيدها ؟ فحاول
رائد الصف ، والذين يشعرون في أنفسهم بالتميز ، فلم يستطيعوا إعادة حتى ثلاث كلمات منها ، فقلت لهم : هذه لا يستطيع أن يقولها إلا ذكي فهم
معناها ، أين الذكي فيكم؟ والذي يريد المشاركة أطلب منه الخروج عند السبورة ومواجهة زملائه ، وأنا أنظر إلى هذا التلميذ ، فإذا نظرت إليه يخفض
يده ؛ لأنه يخشى الإخفاق ، فثقته بنفسه معدومة ، خاصة أنه رأى فلاناً وفلاناً من الذين يشار إليهم بالبنان يتعثرون ، وأين هو من هؤلاء الذين
أخفقوا ؟ وإذا أعرضت عنه ألمحُ أنه يرفع إصبعه عالياً
.
وبعد أن عجز الجميع طلبت من هذا الصبي:
1- أن يقول الجملة وهو جالس في مكانه ، وذلك لخوفي عليه إذا خرج ونظر إلى التلاميذ أن يصيبه البكم الاختياري ، من شدة خجله وحساسيته ،
فقالها وهو جالس على كرسيه ؛ فصفقت له ، وإذا بي أنا الوحيد المصفق ، وكأن التلاميذ لم يصدقوني ، لأنه قالها بصوت خافت ، علاوة على أن
التلاميذ لم يلقوا له بالاً.
2- طلبت منه إعادتها مرة ثانية ، ولكن أمرته بالوقوف في مكانه ، مع رفع الصوت ، وابتسمت في وجهه ، وقلت له : أنت البطل ، أنت أذكى من في
الفصل ، فقام وأعاد الجملة ، ورفع صوته ، فصفقت له أنا ومن حوله من التلاميذ ، فقال الآخرون : قالها يا أستاذ ! قلت نعم ، لأنه ذكي
.
3- الآن وثقت من هذا التلميذ العجيب بعد أن حمسته ، وشجعته ، وظهر لي ذلك في نبرات صوته فقلت: أخرج أمام السبورة ، وقلها مرة أخرى
، وأخذت أشحذ همته وشجاعته ، أنت الذكي ، أنت البطل ، فخرج وقالها والجميع منصتون ، ويستمعون في ذهول
.
4- ثم طلب مني التلاميذ أن آمره بأن يعيدها لهم.. فرفضت طلبهم ، وقلت لهم : اطلبوا أنتم منه . وهدفي من ذلك أولاً: أن أشعرهم أنه أحسن منهم ،
وأنه ذكي ، وثانياً: حتى يثق هو بنفسه ، وأن التلاميذ يخطبون وده ، وأنه مهم بينهم ، وثالثاً:أن الفهم الذي عنده ليس عند غيره ، وأن التلعثم
وتقطيع الكلام الذي كان يصيبه أصاب جميع زملائه في هذا الموقف.
5- وطلبوا منه الإعادة مرة أخرى ، فأخذت بيده ، وقلت لهم أتعبتموه وهو يعيد لكم وأنتم لا تحفظون ، ولا تفهمون ، لأنني على ثقة أنهم سيطلبون
إعادتها منه مرات كثيرة ، فتركت ذلك له حتى يزداد ثقة بنفسه
.
6- دق جرس انتهاء الحصة ، وجاء وقت النزول إلى فناء المدرسة للفسحة ، فلم يخرجوا من الصف إلا بهذا الطالب معهم ، وأخذوا ينادونه باسمه ،
وكوّنوا كوكبة تمشي وهو يمشي بينهم كأنه قائد ، أو لاعب كرة يحمل الكأس ، والفريق من حوله ، فخرجت خلفهم، وشاهدت التلاميذ ينادون
إخوانهم وأصدقاءهم في الصفوف العليا ويجتمعون حول هذا الطالب النجيب وهو يعيد لهم ، وهم يرددون خلفه ، وهو يصحح لهم وكثر أصدقاء هذا
الولد وجلساؤه بعد أن كان نسياً منسياً ، ووثق بنفسه ، وفي هذا اليوم نفسه طلبت منه أن يعرض هذه الجملة على أبيه وأمه ، وإخوته ، وجميع
معارفه ، وأن يتحداهم بإعادتها ، وما هو إلا أسبوع واحد وجاءت إجازة نصف العام ، وهنا ينبغي التنويه إلى أن حفظ تلك العبارة جاء نتيجة الفهم لمعناها.
إذ إن عدم إدراك مفهوم كل كلمة فيها سيجعل حفظها حفظاً ببغاوياً ، وهو ما ليس ينشده التربويون
بعد الإجازة جاء والده إلى المدرسة ، ولأول مرة أقابله ، فقال: جزآك الله خيراً يا أستاذ ، بارك الله لك في أولادك ، جزاء ما فعلت مع ولدي ،
وقال: لقد سألني الأقارب الذين زارونا في الإجازة : من هو الطبيب الذي عالجت عنده ولدك ، إذ كنا نعرفه يتهته في كلامه ، خجولاً منطوياً على
نفسه ، والآن تحدى الكبار والصغار رجالاً ونساءً ، وتحداهم بإعادة جملة صعبة ، عجزنا نحن أن نرددها بعده ، فقلت لهم إنه معلمه عوض
الزايدي، جزاه الله خيراً واستمرت علاقتي بالأب حتى الآن ، وأخذ يخبرني عن ولده ، وأنه انطلق بعد هذه القصة العلاجية وحقق ما لم يكن متوقعاً أبدا.
1- حفظ القرآن الكريم كاملاً ، وأصبح عضواً فاعلاً في نشاطات الجماعة ورحلاتها.
2- تخرج في الثانوية العامة القسم العلمي بامتياز، حيث حقق 96% في المجموع الكلي للدرجات.
3- التحق بالجامعة قسم الرياضيات ، وفي كل سنة دراسية كان ينال الكثير من شهادات الشكر والثناء والتميز، حتى أنه تخرج بامتياز مع مرتبة
شرف.
4- عُين معيداً في إحدى الكليات بجامعاتنا.. وعلمت أنه حصل على قبول للدراسات العليا في واحدة من أعرق الجامعات العالمية ، ولا يزال المستقبل
الواعد ينتظره بالكثير ، خاصة أنه ذاق حلاوة تميزه.
هذا ... وإني لعلى يقين من أن أحداث هذه القصة الكبيرة جداً.. العظيمة أثراً لا تحتاج إلى تعليق ، أو في حاجة إلى ثناء وتقدير للمعلم الذي هو بطلها ،
وفاعل حقيقي لأحداثها ، وإني لأدعو الكُتَّاب إلى تلمس مثل هذه النجاحات وإبرازها ، وعدم الإقلال من شأنها؛ لأن لها مردودها العظيم على
الأجيال كلها ، كما عرفنا.
هكذا تكون التربية الناجعة، وهكذا المربي المحلق الناجح
القصه نقلتها من صفحت الشيخ عادل بن عبد الجبااار
http://a6.sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-snc7/402534_368369706507330_100000029117786_1496671_109 1904609_n.jpg
بداية القصة كانت حين كلفت بتدريس مادة القرآن الكريم والتوحيد للصف الثالث الابتدائي قبل نهاية الفصل الدراسي الأول بشهر واحد ، حينها
طلبت من كل تلميذ أن يقرأ، حتى أعرف مستواهم ، وبعدها أضع خطتي حسب المستوى الذي أجده عندهم . فلما وصل الدور إلى أحد التلاميذ ،
وكان قابعاً في آخر زاوية في الصف ، قلت له اقرأ.. قال الجميع بصوت واحد (ما يعرف، ما يعرف يا أستاذ ) ؛ فآلمني الكلام ، وأوجعني منظر
الطفل البريء الذي احمر وجهه ، وأخذ العرق يتصبب منه ، دق الجرس ، وخرج التلاميذ للفسحة ، وبقيتُ مع هذا الطفل الذي آلمني وضعه ،
وتكلمت معه ، أناقشه ، لعلي أساعده ، فاتضح لي أنه محبط ، وغير واثق من قدراته ، حتى هانت عليه نفسه ؛ لأنه يرى أن جميع التلاميذ أحسن
منه ، وأنه لا يستطيع أن يقرأ مثلهم ، ذهبت من فوري ، وطلبت ملف هذا الطفل ؛ لأطلع على حالته الأسرية ، فوجدته من أسرة ميسورة ، ويعيش
مع أمه ، وأبيه ، وإخوته ، وبيته مستقر، واستنتجت بعدها أن الدمار النفسي الذي يسيطر عليه ليس من البيت والأسرة ، بل إنه من المدرسة .
ويرجع السبب حتماً إلى موقف محرج عرض له من معلم ، أو زميل صده بعنف ، أو تهكم على إجابته ، أو قراءته ، شعر بعدها بهوان النفس
والإحباط، وأخذت المواقف المحرجة والإحباطات تتراكم عليه في كل حصة من المعلمين والزملاء ، عندها فكرت جدياً في انتشال هذا الطفل مما
هو فيه ، خاصة وأنني أعرف بحكم الخبرة مع الأطفال أن كل ذكي حساس، وكل ذكي مرهف المشاعر ، ولا يدافع عن نفسه ، ولا يدخل في
مهاترات قد يكون بعدها أكثر خسارة وبدأت معه خطتي ، بأن غيرت مكان جلوسه ، وأجلسته أمامي في الصف الأول ، وقررت أن أعطي هذا
التلميذ تميزاً لا يوجد إلا فيه وحده ، ليتحدى به الجميع ، وعندها تعود له ثقته بنفسه ، ويشعر بقيمته وإنسانيته بين زملائه ، خاصة بعد أن عرفت
قوة ذكائه .
كتبت له جملة صعبة النطق ، وأفهمته معاني كلماتها ، حتى يتخيلها فيسهل عليه حفظها كنا نرددها ونحن صغار، كتبتها على ورقة صغيرة ،
ووضعت عليها الحركات ، وقلت له: أحفظ هذه الجملة غيباً بسرعة ، ولا يطَّلع عليها أحد من أسرتك ، ولا من زملائك ، وراجعتها معه خلسة عن
أعين التلاميذ حين خرجوا إلى الفسحة ، إذ لم يكن هو حريصاً على الفسحة ، لأنه ليس له صاحب ولا رفيق ، وكنت قد عودت تلاميذي على أن
أروي لهم قصة في نهاية كل حصة شريطة أن يؤدوا كل ما أكلفهم به من حفظ وواجبات ، وإذا تعثر بعضهم أو أحدهم في الحفظ أو الواجب منعت
عنهم القصة ، ليساعدوا زميلهم المتعثر في حفظه ، أو واجبه ، ويعاتبوه لأنه ضيَّع عليهم القصة
.
بعدها التزم الجميع بواجباتي لهم؛ حفاظاً على رضاي، وتشوقاً إلى استمرار القصة وفي أحد الأيام ، وبعد أن قام الجميع بالتسميع طلبوا مني إكمال
قصة الأمس ، فقلت لهم: إلى أين وصلنا فيها ؟ قالوا: وصلنا عند السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ديار بني سعد ، ماذا حدث بعد ذلك ؟
فقلت لهم : لن أكملها لكم اليوم ، فتساءلوا جميعاً : لماذا يا أستاذ ؟ كلنا أدينا التسميع والواجبات ! قلت له م : عندي قصة جديدة ، أرويها لكم اليوم
فقط ، وغداً نعود لإكمال قصة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا وما هي ؟ فسردت عليهم قصة من خيالي ،من أجل أن أُدخل فيها الجملة
الصعبة التي حفظها ذلك الطالب وفهمها سلفاً ، وقلت لهم : إن هناك جماعة يسكنون قرية واحدة يقال لهم (القراقبة) ، كانوا يحتفلون بعيد الأضحى
، ويذبحون فيه البقر ، ويتفاخرون بذبائحهم ، حتى أن كل واحد منهم يربي بقرته من شهر الحج إلى شهر الحج سنة كاملة ، يغذيها بأجود الأعلاف
، حتى تكون سمينة ، وكان عند (علي القرقبي) بقرة يربطها أمام باب بيته في القرية ، وكانت أكبر وأسمن بقرة في القرية كلها ، والكل يتمنون متى
يأتي الحج ، وتذبح هذه البقرة، ليشربوا من مرقها ، ويأكلوا من لحمها ولكن المشكلة أن أهل القرية عندهم عادة هي أنهم إذا ذبحوا الأضاحي
يطبخون رقابها، ويضعون المرق في أوانٍ ، تجمع في المكان الذي يتعايدون فيه ، فدخل الشباب وأخذوا يتذوقون المرق من كل إناء، فصاح أحدهم
مفتخراً بذكائه: عرفتها، عرفتها، فقالوا له: ماذا عرفت؟ قال: (أنا عرفت مرقة رقبة بقرة علي القرقبي من بين مراق رقاب أبقار القراقبة) .وبعد هذه
العبارة قلت لتلاميذي: من الذكي الذي يعيد هذه العبارة، فتفاجئوا جميعاً ، وطلبوا مني إعادته ا، فأعدتها لهم، وقلت: من الذكي الذي يعيدها ؟ فحاول
رائد الصف ، والذين يشعرون في أنفسهم بالتميز ، فلم يستطيعوا إعادة حتى ثلاث كلمات منها ، فقلت لهم : هذه لا يستطيع أن يقولها إلا ذكي فهم
معناها ، أين الذكي فيكم؟ والذي يريد المشاركة أطلب منه الخروج عند السبورة ومواجهة زملائه ، وأنا أنظر إلى هذا التلميذ ، فإذا نظرت إليه يخفض
يده ؛ لأنه يخشى الإخفاق ، فثقته بنفسه معدومة ، خاصة أنه رأى فلاناً وفلاناً من الذين يشار إليهم بالبنان يتعثرون ، وأين هو من هؤلاء الذين
أخفقوا ؟ وإذا أعرضت عنه ألمحُ أنه يرفع إصبعه عالياً
.
وبعد أن عجز الجميع طلبت من هذا الصبي:
1- أن يقول الجملة وهو جالس في مكانه ، وذلك لخوفي عليه إذا خرج ونظر إلى التلاميذ أن يصيبه البكم الاختياري ، من شدة خجله وحساسيته ،
فقالها وهو جالس على كرسيه ؛ فصفقت له ، وإذا بي أنا الوحيد المصفق ، وكأن التلاميذ لم يصدقوني ، لأنه قالها بصوت خافت ، علاوة على أن
التلاميذ لم يلقوا له بالاً.
2- طلبت منه إعادتها مرة ثانية ، ولكن أمرته بالوقوف في مكانه ، مع رفع الصوت ، وابتسمت في وجهه ، وقلت له : أنت البطل ، أنت أذكى من في
الفصل ، فقام وأعاد الجملة ، ورفع صوته ، فصفقت له أنا ومن حوله من التلاميذ ، فقال الآخرون : قالها يا أستاذ ! قلت نعم ، لأنه ذكي
.
3- الآن وثقت من هذا التلميذ العجيب بعد أن حمسته ، وشجعته ، وظهر لي ذلك في نبرات صوته فقلت: أخرج أمام السبورة ، وقلها مرة أخرى
، وأخذت أشحذ همته وشجاعته ، أنت الذكي ، أنت البطل ، فخرج وقالها والجميع منصتون ، ويستمعون في ذهول
.
4- ثم طلب مني التلاميذ أن آمره بأن يعيدها لهم.. فرفضت طلبهم ، وقلت لهم : اطلبوا أنتم منه . وهدفي من ذلك أولاً: أن أشعرهم أنه أحسن منهم ،
وأنه ذكي ، وثانياً: حتى يثق هو بنفسه ، وأن التلاميذ يخطبون وده ، وأنه مهم بينهم ، وثالثاً:أن الفهم الذي عنده ليس عند غيره ، وأن التلعثم
وتقطيع الكلام الذي كان يصيبه أصاب جميع زملائه في هذا الموقف.
5- وطلبوا منه الإعادة مرة أخرى ، فأخذت بيده ، وقلت لهم أتعبتموه وهو يعيد لكم وأنتم لا تحفظون ، ولا تفهمون ، لأنني على ثقة أنهم سيطلبون
إعادتها منه مرات كثيرة ، فتركت ذلك له حتى يزداد ثقة بنفسه
.
6- دق جرس انتهاء الحصة ، وجاء وقت النزول إلى فناء المدرسة للفسحة ، فلم يخرجوا من الصف إلا بهذا الطالب معهم ، وأخذوا ينادونه باسمه ،
وكوّنوا كوكبة تمشي وهو يمشي بينهم كأنه قائد ، أو لاعب كرة يحمل الكأس ، والفريق من حوله ، فخرجت خلفهم، وشاهدت التلاميذ ينادون
إخوانهم وأصدقاءهم في الصفوف العليا ويجتمعون حول هذا الطالب النجيب وهو يعيد لهم ، وهم يرددون خلفه ، وهو يصحح لهم وكثر أصدقاء هذا
الولد وجلساؤه بعد أن كان نسياً منسياً ، ووثق بنفسه ، وفي هذا اليوم نفسه طلبت منه أن يعرض هذه الجملة على أبيه وأمه ، وإخوته ، وجميع
معارفه ، وأن يتحداهم بإعادتها ، وما هو إلا أسبوع واحد وجاءت إجازة نصف العام ، وهنا ينبغي التنويه إلى أن حفظ تلك العبارة جاء نتيجة الفهم لمعناها.
إذ إن عدم إدراك مفهوم كل كلمة فيها سيجعل حفظها حفظاً ببغاوياً ، وهو ما ليس ينشده التربويون
بعد الإجازة جاء والده إلى المدرسة ، ولأول مرة أقابله ، فقال: جزآك الله خيراً يا أستاذ ، بارك الله لك في أولادك ، جزاء ما فعلت مع ولدي ،
وقال: لقد سألني الأقارب الذين زارونا في الإجازة : من هو الطبيب الذي عالجت عنده ولدك ، إذ كنا نعرفه يتهته في كلامه ، خجولاً منطوياً على
نفسه ، والآن تحدى الكبار والصغار رجالاً ونساءً ، وتحداهم بإعادة جملة صعبة ، عجزنا نحن أن نرددها بعده ، فقلت لهم إنه معلمه عوض
الزايدي، جزاه الله خيراً واستمرت علاقتي بالأب حتى الآن ، وأخذ يخبرني عن ولده ، وأنه انطلق بعد هذه القصة العلاجية وحقق ما لم يكن متوقعاً أبدا.
1- حفظ القرآن الكريم كاملاً ، وأصبح عضواً فاعلاً في نشاطات الجماعة ورحلاتها.
2- تخرج في الثانوية العامة القسم العلمي بامتياز، حيث حقق 96% في المجموع الكلي للدرجات.
3- التحق بالجامعة قسم الرياضيات ، وفي كل سنة دراسية كان ينال الكثير من شهادات الشكر والثناء والتميز، حتى أنه تخرج بامتياز مع مرتبة
شرف.
4- عُين معيداً في إحدى الكليات بجامعاتنا.. وعلمت أنه حصل على قبول للدراسات العليا في واحدة من أعرق الجامعات العالمية ، ولا يزال المستقبل
الواعد ينتظره بالكثير ، خاصة أنه ذاق حلاوة تميزه.
هذا ... وإني لعلى يقين من أن أحداث هذه القصة الكبيرة جداً.. العظيمة أثراً لا تحتاج إلى تعليق ، أو في حاجة إلى ثناء وتقدير للمعلم الذي هو بطلها ،
وفاعل حقيقي لأحداثها ، وإني لأدعو الكُتَّاب إلى تلمس مثل هذه النجاحات وإبرازها ، وعدم الإقلال من شأنها؛ لأن لها مردودها العظيم على
الأجيال كلها ، كما عرفنا.
هكذا تكون التربية الناجعة، وهكذا المربي المحلق الناجح
القصه نقلتها من صفحت الشيخ عادل بن عبد الجبااار