أ.دلال العوفي
2011-01-10, 11:23 PM
كارثة فقدان المسوغات الاجتماعية .
أ. ناريمان عثمان .
عندما يتلفّت الإنسان حوله فلا يجد مسوّغًا لوجوده، ولا مسوّغاً يجعله يشعر بقيمته؛ لأنه لا يملك في رصيده الشخصي أي عمل أو إنجاز مهما صغر بل على العكس يجد ركاماً من الإخفاقات، فإنه يشعر بالحقد على نفسه، ويفقد الانسجام الطبيعي مع الحياة، ويصبح الموت الذي يفهمه على أنه الفناء والتحوّل إلى اللاشيء هو الخلاص، ففي سنة ألفين ميلادية انتشرت حوادث الانتحار بكثرة؛ لأن فكرة فناء العالم وحلول القيامة كانت مسيطرة، كما يتجه الأفراد فاقدو المسوّغات إلى الانتحار، فإن المجتمعات فاقدة المسوّغات تنتحر أيضاً بنفس الطريقة، ولو أن حواسّنا قد لا تدرك هذه الظاهرة بنفس وضوح ظاهرة انتحار الفرد.
وهي ليست ظاهرة قاصرة على مجتمع معين دون غيره، تماماً كما أن الفعالية والإنتاج ليست حكراً على مجتمع معين أيضاً؛ إذ إن جميع الشعوب لديها نفس الاستعدادات الطبيعية، مما يناقض فكرة العنصرية التي تقول بأن التقدم حكر على عرق أو شعب؛ لأن المجتمعات الحالية تعاني من تفاوت في فعاليّتها، وكل مجتمع بحد ذاته يعاني من تفاوت في مستوى إنتاجه عبر التاريخ، وبالتالي ليس من عرق رائد، لكن المفارقة تكمن في المسوّغات والمصلحة العامة والقيم الحقيقية التي تؤمن بها المجتمعات فتحدد مستوى حركتها ونشاطها.. تلك المسوّغات أو القيم عندما تكون إيجابية فإنها هي التي تكوّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قممه.
فالقيم في الحياة الجاهلية كانت تسمو إلى بناء المجد الشخصي، وحسب قول مالك بن نبي فإن "البطولة في الجاهلية كانت تهدف إلى إعلاء شأن الـ(أنا)، لكن الإسلام حوّل محور البطولة لتجد مسوّغاتها في عالم الآخرين؛ أي أصبحت تعبر عن اهتمام أسمى، يرتبط بغريزة الـ(نحن) أكثر منه بالـ(أنا)... العالم الإسلامي عندما قدّم للإنسانية الحديثة نتاجه العقلي من علوم وتشريع.. وعندما قام بالدور الحضاري الذي وصل بين الحضارات العتيقة وحضارة عصرنا، إنما كان مندفعاً بالمسوّغات التي أتى بها الإسلام ووضعها في حياته، وكانت في حالة توتر خلاّق، التوتر الذي يصنع المعجزات".
ركز مالك بن نبي على فكرة التوتر التي تؤدي إلى العمل والفعاليّة، والمنطق الفيزيائي يؤيد هذه الفكرة؛ إذ إن الدارة الكهربائية لا يمكن أن يلاحظ فيها أي مرور للتيار في غياب التوتر بين طرفي هذه الدارة، المعنى البسيط للتوتر هو شحن قطب بشحنات موجبة والقطب الآخر بشحنات سالبة، ففتور التوتر في المجتمع، وبالتالي غياب أي نوع من الشحنات التي تدفع إلى الحركة هو الطريق إلى الانتحار الذي تحدثنا عنه.
"وكذلك الحضارة الإسلامية أخذت في الأفول؛ لأنها فقدت مسوّغاتها، فلم تستطع أن تدفع من جديد طاقاتها الاجتماعية، وأصبحت دوافع الحياة فاترة، وفقدت المصلحة العامة سمّوها تدريجياً.. إذ أصبحت مسوّغات المجتمع الإسلامي حيوانية عليها غلاف من إنسانية بسيط، تعبر عن فلسفة ساذجة.." كما يقول مالك بن نبي.
ومن صور الإقلاع عن الحياة والانتحار الروحي هو الصوفية التي تعبر عن اعتزال الحياة والتملص من مسؤوليتها واختزال واجبات الإنسان في الذكر وطقوس العبادة المجردة عن أي عمل أو إنتاج.
انهيار الفلسفة الإسلامية التي كانت في بداية عهدها وتداعي المسوّغات التي أوجدتها، مسخت فكر المسلمين، وبالتالي تم إلغاؤهم من خارطة المجتمعات المؤثرة في الإنسانية، ففي نظر جودت سعيد فإن المسلم ملغي حالياً والشخصية الإسلامية منفية "إن البحث في أية قضية يأتي بعد وجود صاحبها".. ويرى المفكر جودت سعيد أن العالم الإسلامي يعاني من غياب معرفي مزدوج "هذا الغياب هو من جانبين: غياب عن معرفة ما عند العالم، وغياب عن معرفة ما عنده، وهذا هو موقف العالم الإسلامي والمسلم من سوق الأفكار العالمية؛ إذ لا يشعر أنه يملك شيئاً يساهم به في حل أزمات العالم، بينما اليوم تحوّل الصراع إلى الفكرة".
ثمة مجتمعات كثيرة عانت من مشكلة فقدان المسوّغات لكنا تحدثنا عن المجتمع الإسلامي؛ لأننا قادرون على فهمه ولمس مشكلاته، فهو اليوم بأمس الحاجة للبحث عن مسوّغات تدفعه إلى البناء الإنساني كتلك المسوغات التي استفزت طاقات العرب إلى أقصى حد، وأحدثت انقلاباً اجتماعياً وفكرياً جذرياً في جزيرة العرب في غضون سنوات، وتحوّل الإنسان الجاهلي الاعتباطي في أحيان كثيرة إلى مسلم تسكنه هواجس بتجسيد فكره الجديد، وبالتالي ساهم في الوصول إلى ذرا الحضارة الإنسانية في ذلك الوقت، ومسلم هذا العصر لم يولد بعد حسب رأي جودت سعيد؛ لأنه يحتاج إلى بناء فلسفته الإسلامية وفق مفردات هذا الزمن؛ لأنه يحتاج إلى إيجاد مسوّغات جديدة تأتي بالإسلام إلى هذا العصر، ولا تعود بالمسلمين إلى القرون الماضية.. ومن وجهة نظر مالك بن نبي "لا ننسى في مثل هذه الساعة الحاسمة أن أسمى المسوّغات هي التي تهبط من السماء". لأن المسوّغ السماوي كفيل ببناء حضارة متكاملة.
جميع المجتمعات التي نهضت أوجدت لنفسها المسوّغات أولاً سواء كانت سماوية أو وضعية، اعتنقت مبادئها وآمنت بقيمها، ثم شحذت إرادة مواطنيها، وبالتالي رأت وجه الشمس، كالتجربة الألمانية التي نهضت من بين الركام ودمار الحرب إلى البناء والفعالية، وكدليل عن قوة تمسك الألمان بوطنهم وجدوى ذلك المسوّغ، كانت إحدى السيدات الألمانيات تعيش خارج ألمانيا حيث كوّنت أسرتها هناك، وفي زيارة لألمانيا بعد الحرب وقفت عند حال بلدها، فاختارت البقاء في ألمانيا، ونطقت بالعبارة التي تجسّد مسوغها بوضوح كبير قالت: "لن أعود إلى المهجر فألمانيا تحتاجني الآن". على الرغم من أنها امرأة بسيطة وكل ما يمكنها تقديمه لنهضة بلادها سيكون عملاً بسيطاً جداً، لكن هذا الفهم الجماعي للمسؤولية، ووجود الدافع الذي يحرك جميع الطبقات الاجتماعية بسائر إمكانياتها هو الذي أحيا ألمانيا من جديد
أ. ناريمان عثمان .
عندما يتلفّت الإنسان حوله فلا يجد مسوّغًا لوجوده، ولا مسوّغاً يجعله يشعر بقيمته؛ لأنه لا يملك في رصيده الشخصي أي عمل أو إنجاز مهما صغر بل على العكس يجد ركاماً من الإخفاقات، فإنه يشعر بالحقد على نفسه، ويفقد الانسجام الطبيعي مع الحياة، ويصبح الموت الذي يفهمه على أنه الفناء والتحوّل إلى اللاشيء هو الخلاص، ففي سنة ألفين ميلادية انتشرت حوادث الانتحار بكثرة؛ لأن فكرة فناء العالم وحلول القيامة كانت مسيطرة، كما يتجه الأفراد فاقدو المسوّغات إلى الانتحار، فإن المجتمعات فاقدة المسوّغات تنتحر أيضاً بنفس الطريقة، ولو أن حواسّنا قد لا تدرك هذه الظاهرة بنفس وضوح ظاهرة انتحار الفرد.
وهي ليست ظاهرة قاصرة على مجتمع معين دون غيره، تماماً كما أن الفعالية والإنتاج ليست حكراً على مجتمع معين أيضاً؛ إذ إن جميع الشعوب لديها نفس الاستعدادات الطبيعية، مما يناقض فكرة العنصرية التي تقول بأن التقدم حكر على عرق أو شعب؛ لأن المجتمعات الحالية تعاني من تفاوت في فعاليّتها، وكل مجتمع بحد ذاته يعاني من تفاوت في مستوى إنتاجه عبر التاريخ، وبالتالي ليس من عرق رائد، لكن المفارقة تكمن في المسوّغات والمصلحة العامة والقيم الحقيقية التي تؤمن بها المجتمعات فتحدد مستوى حركتها ونشاطها.. تلك المسوّغات أو القيم عندما تكون إيجابية فإنها هي التي تكوّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قممه.
فالقيم في الحياة الجاهلية كانت تسمو إلى بناء المجد الشخصي، وحسب قول مالك بن نبي فإن "البطولة في الجاهلية كانت تهدف إلى إعلاء شأن الـ(أنا)، لكن الإسلام حوّل محور البطولة لتجد مسوّغاتها في عالم الآخرين؛ أي أصبحت تعبر عن اهتمام أسمى، يرتبط بغريزة الـ(نحن) أكثر منه بالـ(أنا)... العالم الإسلامي عندما قدّم للإنسانية الحديثة نتاجه العقلي من علوم وتشريع.. وعندما قام بالدور الحضاري الذي وصل بين الحضارات العتيقة وحضارة عصرنا، إنما كان مندفعاً بالمسوّغات التي أتى بها الإسلام ووضعها في حياته، وكانت في حالة توتر خلاّق، التوتر الذي يصنع المعجزات".
ركز مالك بن نبي على فكرة التوتر التي تؤدي إلى العمل والفعاليّة، والمنطق الفيزيائي يؤيد هذه الفكرة؛ إذ إن الدارة الكهربائية لا يمكن أن يلاحظ فيها أي مرور للتيار في غياب التوتر بين طرفي هذه الدارة، المعنى البسيط للتوتر هو شحن قطب بشحنات موجبة والقطب الآخر بشحنات سالبة، ففتور التوتر في المجتمع، وبالتالي غياب أي نوع من الشحنات التي تدفع إلى الحركة هو الطريق إلى الانتحار الذي تحدثنا عنه.
"وكذلك الحضارة الإسلامية أخذت في الأفول؛ لأنها فقدت مسوّغاتها، فلم تستطع أن تدفع من جديد طاقاتها الاجتماعية، وأصبحت دوافع الحياة فاترة، وفقدت المصلحة العامة سمّوها تدريجياً.. إذ أصبحت مسوّغات المجتمع الإسلامي حيوانية عليها غلاف من إنسانية بسيط، تعبر عن فلسفة ساذجة.." كما يقول مالك بن نبي.
ومن صور الإقلاع عن الحياة والانتحار الروحي هو الصوفية التي تعبر عن اعتزال الحياة والتملص من مسؤوليتها واختزال واجبات الإنسان في الذكر وطقوس العبادة المجردة عن أي عمل أو إنتاج.
انهيار الفلسفة الإسلامية التي كانت في بداية عهدها وتداعي المسوّغات التي أوجدتها، مسخت فكر المسلمين، وبالتالي تم إلغاؤهم من خارطة المجتمعات المؤثرة في الإنسانية، ففي نظر جودت سعيد فإن المسلم ملغي حالياً والشخصية الإسلامية منفية "إن البحث في أية قضية يأتي بعد وجود صاحبها".. ويرى المفكر جودت سعيد أن العالم الإسلامي يعاني من غياب معرفي مزدوج "هذا الغياب هو من جانبين: غياب عن معرفة ما عند العالم، وغياب عن معرفة ما عنده، وهذا هو موقف العالم الإسلامي والمسلم من سوق الأفكار العالمية؛ إذ لا يشعر أنه يملك شيئاً يساهم به في حل أزمات العالم، بينما اليوم تحوّل الصراع إلى الفكرة".
ثمة مجتمعات كثيرة عانت من مشكلة فقدان المسوّغات لكنا تحدثنا عن المجتمع الإسلامي؛ لأننا قادرون على فهمه ولمس مشكلاته، فهو اليوم بأمس الحاجة للبحث عن مسوّغات تدفعه إلى البناء الإنساني كتلك المسوغات التي استفزت طاقات العرب إلى أقصى حد، وأحدثت انقلاباً اجتماعياً وفكرياً جذرياً في جزيرة العرب في غضون سنوات، وتحوّل الإنسان الجاهلي الاعتباطي في أحيان كثيرة إلى مسلم تسكنه هواجس بتجسيد فكره الجديد، وبالتالي ساهم في الوصول إلى ذرا الحضارة الإنسانية في ذلك الوقت، ومسلم هذا العصر لم يولد بعد حسب رأي جودت سعيد؛ لأنه يحتاج إلى بناء فلسفته الإسلامية وفق مفردات هذا الزمن؛ لأنه يحتاج إلى إيجاد مسوّغات جديدة تأتي بالإسلام إلى هذا العصر، ولا تعود بالمسلمين إلى القرون الماضية.. ومن وجهة نظر مالك بن نبي "لا ننسى في مثل هذه الساعة الحاسمة أن أسمى المسوّغات هي التي تهبط من السماء". لأن المسوّغ السماوي كفيل ببناء حضارة متكاملة.
جميع المجتمعات التي نهضت أوجدت لنفسها المسوّغات أولاً سواء كانت سماوية أو وضعية، اعتنقت مبادئها وآمنت بقيمها، ثم شحذت إرادة مواطنيها، وبالتالي رأت وجه الشمس، كالتجربة الألمانية التي نهضت من بين الركام ودمار الحرب إلى البناء والفعالية، وكدليل عن قوة تمسك الألمان بوطنهم وجدوى ذلك المسوّغ، كانت إحدى السيدات الألمانيات تعيش خارج ألمانيا حيث كوّنت أسرتها هناك، وفي زيارة لألمانيا بعد الحرب وقفت عند حال بلدها، فاختارت البقاء في ألمانيا، ونطقت بالعبارة التي تجسّد مسوغها بوضوح كبير قالت: "لن أعود إلى المهجر فألمانيا تحتاجني الآن". على الرغم من أنها امرأة بسيطة وكل ما يمكنها تقديمه لنهضة بلادها سيكون عملاً بسيطاً جداً، لكن هذا الفهم الجماعي للمسؤولية، ووجود الدافع الذي يحرك جميع الطبقات الاجتماعية بسائر إمكانياتها هو الذي أحيا ألمانيا من جديد