الاستاذ غازي الحربي
2015-12-11, 10:05 PM
من هو وزير التعليم احمد العيسى وما ذكره في كتابة التعليم العالي في السعوديـة
http://up.arabseyes.com/uploads2013/11_12_15144986040816221.jpg
في كتابه "التعليم العالي في السعودية، رحلة البحث عن هوية"، يرصد الدكتور أحمد العيسى، مسيرة التعليم العالي في السعودية عبر أعينٍ نقدية. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب. فمن المعروف أن التعليم العالي في السعودية يعيش حاليا فترة ذهبية له، من ناحية عدد المشاريع الضخمة التي أنجزها في السنوات الأخيرة، عبر إنشاء جامعات جديدة، وتشييد المرافق والمنشآت التابعة لها، إلى برامج ابتعاث ضخمة أرسلت عشرات الآلاف من الطلبة إلى أكثر من 34 بلدا في العالم.
http://s.alriyadh.com/2010/11/25/img/623481868418.jpg
إن التعليم العالي في السعودية يعتبر باختصار صاحب المشروع التعليمي الأضخم في منطقة الشرق الأوسط، ومع ذلك فالمخرجات والنتائج التي أنجزها هذا المشروع على أرض الواقع لا تزال محل مساءلة ونقد.
مع مطلع العقد الماضي كانت السعودية بلد السبع جامعات، وفي نهاية هذا العقد أصبحت بلد الثلاثين جامعة، ومع تزايد عدد الجامعات والطلبة، كان هناك وعي نقدي متزايد، على اعتبار أن الجامعات تحظى باهتمام شعبي واسع، وبالخصوص في مسألة تجهيزها للكفاءات من الشباب القادرين على المنافسة في أسواق العمل والفرص.
وفي السنوات الأخيرة، زادت نبرة الانتقاد لمستوى التعليم الجامعي لدينا، بعد مشكلة التصنيف المتدني "جدًّا" للجامعات السعودية في بعض التصنيفات العالمية، ومشكلة أخرى أثارتها مجلة العلم الأميركية "Science magazine"، حين كتبت تقريرا ذكرت فيه أن جامعات سعودية كبرى تدفع أموالا لأساتذة عالميين من أجل وضع أسمائهم على بحوثها، طالبة رفع تصنيفها العالمي من وراء ذلك.
يرى الباحث العيسى أن التعليم العالي، رغم بعض إنجازاته واستفادته الجيدة من الطفرة الاقتصادية الأخيرة في السعودية، لم ينجح في تقديم جامعات علمية منافسة في عالم اليوم، كما أن جامعاته لم تنجح في التأثير في المجتمع والتنمية وتقدم الاقتصاد في البلد. ويصل في كتابه إلى التعبير عن فكرته الأساس، وهي أن الأصوات المتحدثة عن إنجازات التعليم العالي، والآراء التي ارتفعت حول أدائه، لم تُلامس القضية الأساسية التي تمثل معيار النجاح الجوهري لهذا الأداء: مسألة استقلال الجامعات، ومعرفتها لهويتها ورسالتها وأهدافها.
قراءة في وضع التعليم العالي
الدكتور العيسى يكتب مستندًا إلى خلفيته باعتباره باحثا وصاحب خبرة في المجال الأكاديمي. فقد سبق للعيسى أن عمل أستاذا جامعيا، وكان مديرًا لجامعة "اليمامة" الأهلية، وعضوًا في عدد من مجالس التعليم الدولية والمحلية. ويأتي كتابه هذا استكمالاً لكتب سابقة له في مجال التعليم: "التعليم في المملكة العربية السعودية: سياساته، نظمه، استشراف مستقبله" و"إصلاح التعليم في السعودية، بين غياب الرؤية السياسية وتوجس الثقافة الدينية وعجز الإدارة التربوية". وهذا الكتاب الأخير مثّل جرأة غير مسبوقة من باحث سعودي في انتقاد العملية التعليمية في السعودية.
يستعين الباحث بخبرته الأكاديمية ليكتب متحسّسًا المناطق الجوهرية التي تكشف عن أسباب ضعف التعليم العالي في السعودية، وهي مناطق لم تجد حقها من العرض والمناقشة والبحث. فالتطورات الإيجابية في مجال التعليم العالي، لم تتغير معها فلسفة التعليم، ولم تتبدل سياساته، كما لم يعقب هذا التغيّر والتطوير أي تحرر للتعليم من المركزية والبيروقراطية ومناخات العبودية.
فاستقلال الجامعات الإداري والمالي والفكري هو المطلب العزيز الذي يؤدي إلى نشوء الهوية المستقلّة والخلاقة لهذه الجامعات، لكن لا توجد بوادر توحي بالمضي في هذا الطريق. لذا نجد الكاتب يؤكد أن جهود الطفرة التعليمية توقفت عند "مشروع يقام هنا أو هناك، أو كرسي تقوم به هذه الجامعة أو تلك، أو برنامج للدراسات العليا في هذه الزاوية من بلادنا أو تلك، وقصرت عن أن تخطو خطوة حقيقة إلى الأمام، خطوة مهمة وجذرية وحاسمة لمستقبل البلاد وشبابها ومجتمعها، خطوة تبدأ بإصدار نظام جديد للجامعات، تتمتع فيه الجامعات السعودية بالاستقلالية الحقيقية" (ص19).
يبدأ الكاتب بعرضه لتمرحل مسيرة الجامعات السعودية. فهي لا تعتبر حديثة التكوين، وقد مضى على ابتداء مسيرتها أكثر من نصف قرن. فجامعة الملك سعود في الرياض التي تعتبر أقدم جامعة سعودية أنشئت عام 1956 وقد بدأت عبر كلية الآداب. وتعتبر كلية الشريعة في مكة المكرمة التي أنشئت في 1949 أولى بدايات التعليم العالي في المملكة.
وقد شهد التعليم بدايات مشجعة بين عامي 1950 و1980، ثم عانت الجامعات من ركود بعد إنشاء الجامعات السعودية السبع بين عامي 1980 و2000. وقد تبدّت آثار هذا الركود على الجامعات السعودية من عام 1990 حتى 2005 حين تطورت أزمة القبول والاستيعاب في الجامعات الحكومية، نتيجة لتوقف نمو هذه الجامعات وعجزها عن التفاعل ومواكبة النمو الحاصل في البلد.
واضطرت أعداد كبيرة من الطلاب إلى السفر للدراسة في البلدان العربية. ونتيجة لهذه المشاكل بادرت وزارة التعليم العالي بافتتاح كليات المجتمع، والبرامج المسائية الموازية وفتح الباب أمام القطاع الأهلي للمشاركة في التعليم العالي. ومن ثم أتت المرحلة الأخيرة معلنة قفزة قوية للتعليم العالي منذ منتصف العقد الأخير، بالتوسع في الجامعات وتطويرها، وإطلاق برامج الابتعاث.
ويمضي العيسى في كتابه متحدثًا عن بعض الملامح والتجارب التي تخللت هذه الفترات. ومن ذلك حديثه الإيجابي عن الابتعاث الذي قدّم عبر مراحله المختلفة أكثر من هدف للبلد، بعد أن نشطت المؤسسات التعليمية السعودية في إرسال طلابها. ثم انتقل للحديث عن التعليم الأهلي في المملكة، الذي كانت له بداية متواضعة في أواخر التسعينيات، ثم عاش فترة نجاح ولكنها قصيرة بعد أن حلّت مشكلة القبول في الجامعات، علمًا بأن تجربة التعليم الأهلي هذه كانت محجّمة إلى حد كبير لكونها "تابعة" وخاضعة للإشراف المباشر من الوزارة في أدق التفاصيل الإدارية والمالية.
وينتقل الباحث ليؤكد أن التعليم العالي للبنات في السعودية يبدو في حال أسوأ بكثير من التعليم العالي للبنين. فالفكر التعليمي للرجال تطوّر باستمرار نتيجة الابتعاث والاحتكاك بالتجارب الدولية، بينما كان الفكر التعليمي للبنات يكرر نفسه في حلقات مغلقة. ثم يمر الكاتب على عدد من المحطات والتجارب التي أثرت على مسيرة التعليم العالي في السعودية، ككليات المجتمع التي لا تعرف لها فائدة محدّدة، ولا أي مستقبل ينتظرها.
وهناك أيضا جامعة الملك عبد الله (كاوست) التي تعتبر الجامعة الاستثناء التي تخرج عن نسق بقية الجامعات، نظرًا لجو الاستقلال والحرية الأكاديمية فيها. كما يمر أيضا بالمشروع الإستراتيجي لتطوير التعليم العالي (آفاق)، الذي سقط في منتصف الطريق، واستمرت المشاريع من دونه، أي من دون خطة إستراتيجية ترسم الطريق للتعليم العالي. وكرّس الكاتب الثلثين المتبقيين من الكتاب للحديث عن مسألة هوية الجامعات السعودية، وأسباب غيابها، مع إلقاء نظرة على التعليم العالي في مناطق أخرى من العالم.
الجامعات وأزمة الهويّة
تتركز الرسالة، التي أراد الكاتب إيصالها في هذا الكتاب، في مسألة غياب هويّة الجامعات السعودية. فيرى الكاتب أن النظام الحالي لمجلس التعليم العالي والجامعات الذي صدر قبل ما يقارب عشرين عاما قد ساهم في طمس هويّة الجامعات، وحرمها من مساحة حركة وحرية تمكنها من التنوع والاختلاف اللذين تفرضهما طبائعها المتنوعة.
فتجربة البدايات للجامعات السعودية حملت فرصة تشكل لهوية كل منها قبل عقود، لكنها هوية تلاشت بمرور الزمن. فجامعة الملك سعود -الجامعة الأم- كانت تمثل واجهة الحداثة والتطوير في المملكة، حيث كانت تمتلك نخبة تدريس من متعلمي الجامعات الغربية الذين اجتهدوا في التحديث وتطوير مؤسسات الدولة. لكنها بمرور الوقت تنازلت عن هذه الريادة، وهجرتها أفضل العقول والكفاءات، وتدنى فيها النشاط الثقافي، واستسلمت لثقافة التوجس والانغلاق أمام الجديد.
ورغم محاولات تطويرها في السنوات الأخيرة، فإنها لم تستطع حتى الآن أن تستعيد وهجها وريادتها، وبقي مستوى التنوع الفكري ومستوى الحريات متدينا فيها، وأصبحت كما وصفها أحد المنتسبين إليها تقوم "بدور الإقصاء والإبعاد وعدم القبول لكل من لا تتوافق توجهاته مع المدرسة الفكرية الواحدة السائدة أيدلوجيًّا في الجامعة، وقد رأينا أن هذا يرفض بحجة توجهاته التغريبية، وذاك بحجة توجهاته الحداثية، وثالثا لفكره الليبرالي، ورابعا لنقده للمدرسة الفكرية أو للجامعة، وغير ذلك" (ص 68).
لقد مسخت هوية الجامعات المخضرمة بمرور الوقت، وإذا كانت جامعة الملك سعود قد فقدت طبيعتها الريادية والتحديثية، فجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد سارت أيضا بعيدًا عن هويتها. فبعد أن كانت تعرف بطبيعتها الشرعية والعلمية، تحولت إلى "جامعة شاملة تضم كليات في الطب، وعلوم الحاسب، والاقتصاد، والعلوم الإدارية، فأصبحت التخصصات الحديثة تحظى بقبول الطلاب واهتمام المسؤولين، بينما فقدت الكليات العلمية الشرعية بوصلتها وأهميتها ومكانتها داخل الجامعة" (ص 70).
لقد كان منتظرا منها كجامعة متخصصة أن تتطور وفق مسار هويتها، فتقدم فيه قفزات علمية وتجديدية، وتكون قائدة لحركة إصلاح علمية وفقهية في علوم الشريعة. ونفس الأمر ينطبق على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
أما الجامعات الجديدة، التي تتجاوز عشرين جامعة في السعودية، فتبدو كلها نسخة واحدة. فباستثناء جامعة الملك عبد الله (كاوست)، تأسست الجامعات الجديدة على دمج كليات وفروع من جامعات مختلفة في مؤسسة واحدة، ولم تكن مسألة هوية هذه الجامعات واستقلالها مطروحة على طاولة الفكر والنقاش، بل فقط اهتمام وزاري بتصميم المباني والمرافق، وتحديد الكليات والأقسام، فلا فرق يمكن أن يُلحظ بين جامعات حائل والجوف ونجران وغيرها، فاللوائح والأنظمة واحدة، ولا يوجد تنوع حقيقي يعكس تأُثرا بطبيعة المنطقة أو المدينة. مما يدل على أن هذه الجامعات الجديدة لديها مأزق أكبر في مسألة الهوية.
والمركزية كانت عاملا مهما في تأزيم هوية الجامعات واستقلالها، فيذكر الكاتب أن "نظام التعليم العالي في السعودية يؤسس لمركزية سافرة، ورسمية، ومعتمدة. فالعملية التعليمية في الجامعات السعودية ترتبط بسلسلة طويلة من الهرمية الإدارية، تنتهي أصغر قراراتها إلى أعلى موقع قيادي في الدولة" (ص 130)، وقد تحول مجلس التعليم العالي، من مجلس تشريعي إلى تنفيذي يتخذ كافة القرارات الإدارية في الجامعات.
وبالإضافة إلى ذلك، يوجد التوجس التقليدي والرسمي من السماح بإقامة الاتحادات أو الجمعيات الطلابية المنتخبة، كما ابتعدت الجامعات عن الحضور في القضايا الفكرية والثقافية، وواجهت بالإضافة إلى عجزها الداخلي تعقيدات بيروقراطية، وردودًا من قبل التيار المتشدد في البلاد. وتبدّت بيئة الجامعات بيئةً طاردة للأساتذة المنتجين، وغاب عنها في تأسيسها ومراحل نموها، مفهوم الحرية الأكاديمية. ولم تعد الجامعة تمثل للطلاب سوى مكان تلقى فيه الدروس.
حلقة في نقاش مستمر وطويل
تميز هذا الكتاب يكمن في تركيزه على موضوع الهوية، فهي موضوع أساسي وعميق للجامعة والمجتمع. وقد يسأل سائل، لماذا موضوع الهوية مهم للجامعات؟ والحقيقة أنه بلا هوية لن تتمرحل الجامعة في مسار معين، ولن تعرف ما تريد من طلابها والمنتسبين إليها، ولا كيف تتقاطع مع المجتمع، وتؤثر فيه، وتضيف إليه. ولن تتعرف الجامعة هويتها عبر خطة مسبقة فقط، ما لم يكن لها زخم وافر من الأنشطة والمساهمات الفعلية على أرض الواقع، مما يجعل ملامح هويتها تتبدّى أمامها شيئًا فشيئًا.
إن علاقة التعليم مع التنمية، التي ذكر الكاتب أنها من طرف واحد، وبقاء الجامعات على هامش صياغة الوعي بالهوية الوطنية وبمشاكل المجتمع الحيوية، هي حلقات من نقاش طويل يُنتظر منه أن يكون مستمرًّا ومُكاشفًا. ولضعف الهوية لدى الجامعات السعودية جوانب أخرى لم تتم تغطيتها في الكتاب، وتحتاج إلى مزيد من التعمق والمتابعة. فعلى سبيل المثال، إلى أي مدى يؤثر غياب هوية الأستاذ على هوية الجامعة. وما هو الدور الذي لعبه الاقتصاد السياسي للبلد، أو اقتصاد الريع، تجاه تعزيز دور هذه الوظيفة بوصفها وظيفة فقط، وتفريغها من دورها الإنتاجي والإبداعي؟ وإلى أي مدى أثّر غياب التربية والممارسة المدنية في إنتاج كوادر أكاديمية لا تهتم للبعد المدني ولا المشاركة المجتمعية أو الثقافية والسياسية؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى تدارك سريع، لإنتاج عملية إصلاح تعليمي مستمرة وشفافة، تعيد الجامعة إلى طبيعتها الحقيقية، باعتبارها صانعة عقول، وقائدة أوطان.
http://up.arabseyes.com/uploads2013/11_12_15144986040816221.jpg
في كتابه "التعليم العالي في السعودية، رحلة البحث عن هوية"، يرصد الدكتور أحمد العيسى، مسيرة التعليم العالي في السعودية عبر أعينٍ نقدية. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب. فمن المعروف أن التعليم العالي في السعودية يعيش حاليا فترة ذهبية له، من ناحية عدد المشاريع الضخمة التي أنجزها في السنوات الأخيرة، عبر إنشاء جامعات جديدة، وتشييد المرافق والمنشآت التابعة لها، إلى برامج ابتعاث ضخمة أرسلت عشرات الآلاف من الطلبة إلى أكثر من 34 بلدا في العالم.
http://s.alriyadh.com/2010/11/25/img/623481868418.jpg
إن التعليم العالي في السعودية يعتبر باختصار صاحب المشروع التعليمي الأضخم في منطقة الشرق الأوسط، ومع ذلك فالمخرجات والنتائج التي أنجزها هذا المشروع على أرض الواقع لا تزال محل مساءلة ونقد.
مع مطلع العقد الماضي كانت السعودية بلد السبع جامعات، وفي نهاية هذا العقد أصبحت بلد الثلاثين جامعة، ومع تزايد عدد الجامعات والطلبة، كان هناك وعي نقدي متزايد، على اعتبار أن الجامعات تحظى باهتمام شعبي واسع، وبالخصوص في مسألة تجهيزها للكفاءات من الشباب القادرين على المنافسة في أسواق العمل والفرص.
وفي السنوات الأخيرة، زادت نبرة الانتقاد لمستوى التعليم الجامعي لدينا، بعد مشكلة التصنيف المتدني "جدًّا" للجامعات السعودية في بعض التصنيفات العالمية، ومشكلة أخرى أثارتها مجلة العلم الأميركية "Science magazine"، حين كتبت تقريرا ذكرت فيه أن جامعات سعودية كبرى تدفع أموالا لأساتذة عالميين من أجل وضع أسمائهم على بحوثها، طالبة رفع تصنيفها العالمي من وراء ذلك.
يرى الباحث العيسى أن التعليم العالي، رغم بعض إنجازاته واستفادته الجيدة من الطفرة الاقتصادية الأخيرة في السعودية، لم ينجح في تقديم جامعات علمية منافسة في عالم اليوم، كما أن جامعاته لم تنجح في التأثير في المجتمع والتنمية وتقدم الاقتصاد في البلد. ويصل في كتابه إلى التعبير عن فكرته الأساس، وهي أن الأصوات المتحدثة عن إنجازات التعليم العالي، والآراء التي ارتفعت حول أدائه، لم تُلامس القضية الأساسية التي تمثل معيار النجاح الجوهري لهذا الأداء: مسألة استقلال الجامعات، ومعرفتها لهويتها ورسالتها وأهدافها.
قراءة في وضع التعليم العالي
الدكتور العيسى يكتب مستندًا إلى خلفيته باعتباره باحثا وصاحب خبرة في المجال الأكاديمي. فقد سبق للعيسى أن عمل أستاذا جامعيا، وكان مديرًا لجامعة "اليمامة" الأهلية، وعضوًا في عدد من مجالس التعليم الدولية والمحلية. ويأتي كتابه هذا استكمالاً لكتب سابقة له في مجال التعليم: "التعليم في المملكة العربية السعودية: سياساته، نظمه، استشراف مستقبله" و"إصلاح التعليم في السعودية، بين غياب الرؤية السياسية وتوجس الثقافة الدينية وعجز الإدارة التربوية". وهذا الكتاب الأخير مثّل جرأة غير مسبوقة من باحث سعودي في انتقاد العملية التعليمية في السعودية.
يستعين الباحث بخبرته الأكاديمية ليكتب متحسّسًا المناطق الجوهرية التي تكشف عن أسباب ضعف التعليم العالي في السعودية، وهي مناطق لم تجد حقها من العرض والمناقشة والبحث. فالتطورات الإيجابية في مجال التعليم العالي، لم تتغير معها فلسفة التعليم، ولم تتبدل سياساته، كما لم يعقب هذا التغيّر والتطوير أي تحرر للتعليم من المركزية والبيروقراطية ومناخات العبودية.
فاستقلال الجامعات الإداري والمالي والفكري هو المطلب العزيز الذي يؤدي إلى نشوء الهوية المستقلّة والخلاقة لهذه الجامعات، لكن لا توجد بوادر توحي بالمضي في هذا الطريق. لذا نجد الكاتب يؤكد أن جهود الطفرة التعليمية توقفت عند "مشروع يقام هنا أو هناك، أو كرسي تقوم به هذه الجامعة أو تلك، أو برنامج للدراسات العليا في هذه الزاوية من بلادنا أو تلك، وقصرت عن أن تخطو خطوة حقيقة إلى الأمام، خطوة مهمة وجذرية وحاسمة لمستقبل البلاد وشبابها ومجتمعها، خطوة تبدأ بإصدار نظام جديد للجامعات، تتمتع فيه الجامعات السعودية بالاستقلالية الحقيقية" (ص19).
يبدأ الكاتب بعرضه لتمرحل مسيرة الجامعات السعودية. فهي لا تعتبر حديثة التكوين، وقد مضى على ابتداء مسيرتها أكثر من نصف قرن. فجامعة الملك سعود في الرياض التي تعتبر أقدم جامعة سعودية أنشئت عام 1956 وقد بدأت عبر كلية الآداب. وتعتبر كلية الشريعة في مكة المكرمة التي أنشئت في 1949 أولى بدايات التعليم العالي في المملكة.
وقد شهد التعليم بدايات مشجعة بين عامي 1950 و1980، ثم عانت الجامعات من ركود بعد إنشاء الجامعات السعودية السبع بين عامي 1980 و2000. وقد تبدّت آثار هذا الركود على الجامعات السعودية من عام 1990 حتى 2005 حين تطورت أزمة القبول والاستيعاب في الجامعات الحكومية، نتيجة لتوقف نمو هذه الجامعات وعجزها عن التفاعل ومواكبة النمو الحاصل في البلد.
واضطرت أعداد كبيرة من الطلاب إلى السفر للدراسة في البلدان العربية. ونتيجة لهذه المشاكل بادرت وزارة التعليم العالي بافتتاح كليات المجتمع، والبرامج المسائية الموازية وفتح الباب أمام القطاع الأهلي للمشاركة في التعليم العالي. ومن ثم أتت المرحلة الأخيرة معلنة قفزة قوية للتعليم العالي منذ منتصف العقد الأخير، بالتوسع في الجامعات وتطويرها، وإطلاق برامج الابتعاث.
ويمضي العيسى في كتابه متحدثًا عن بعض الملامح والتجارب التي تخللت هذه الفترات. ومن ذلك حديثه الإيجابي عن الابتعاث الذي قدّم عبر مراحله المختلفة أكثر من هدف للبلد، بعد أن نشطت المؤسسات التعليمية السعودية في إرسال طلابها. ثم انتقل للحديث عن التعليم الأهلي في المملكة، الذي كانت له بداية متواضعة في أواخر التسعينيات، ثم عاش فترة نجاح ولكنها قصيرة بعد أن حلّت مشكلة القبول في الجامعات، علمًا بأن تجربة التعليم الأهلي هذه كانت محجّمة إلى حد كبير لكونها "تابعة" وخاضعة للإشراف المباشر من الوزارة في أدق التفاصيل الإدارية والمالية.
وينتقل الباحث ليؤكد أن التعليم العالي للبنات في السعودية يبدو في حال أسوأ بكثير من التعليم العالي للبنين. فالفكر التعليمي للرجال تطوّر باستمرار نتيجة الابتعاث والاحتكاك بالتجارب الدولية، بينما كان الفكر التعليمي للبنات يكرر نفسه في حلقات مغلقة. ثم يمر الكاتب على عدد من المحطات والتجارب التي أثرت على مسيرة التعليم العالي في السعودية، ككليات المجتمع التي لا تعرف لها فائدة محدّدة، ولا أي مستقبل ينتظرها.
وهناك أيضا جامعة الملك عبد الله (كاوست) التي تعتبر الجامعة الاستثناء التي تخرج عن نسق بقية الجامعات، نظرًا لجو الاستقلال والحرية الأكاديمية فيها. كما يمر أيضا بالمشروع الإستراتيجي لتطوير التعليم العالي (آفاق)، الذي سقط في منتصف الطريق، واستمرت المشاريع من دونه، أي من دون خطة إستراتيجية ترسم الطريق للتعليم العالي. وكرّس الكاتب الثلثين المتبقيين من الكتاب للحديث عن مسألة هوية الجامعات السعودية، وأسباب غيابها، مع إلقاء نظرة على التعليم العالي في مناطق أخرى من العالم.
الجامعات وأزمة الهويّة
تتركز الرسالة، التي أراد الكاتب إيصالها في هذا الكتاب، في مسألة غياب هويّة الجامعات السعودية. فيرى الكاتب أن النظام الحالي لمجلس التعليم العالي والجامعات الذي صدر قبل ما يقارب عشرين عاما قد ساهم في طمس هويّة الجامعات، وحرمها من مساحة حركة وحرية تمكنها من التنوع والاختلاف اللذين تفرضهما طبائعها المتنوعة.
فتجربة البدايات للجامعات السعودية حملت فرصة تشكل لهوية كل منها قبل عقود، لكنها هوية تلاشت بمرور الزمن. فجامعة الملك سعود -الجامعة الأم- كانت تمثل واجهة الحداثة والتطوير في المملكة، حيث كانت تمتلك نخبة تدريس من متعلمي الجامعات الغربية الذين اجتهدوا في التحديث وتطوير مؤسسات الدولة. لكنها بمرور الوقت تنازلت عن هذه الريادة، وهجرتها أفضل العقول والكفاءات، وتدنى فيها النشاط الثقافي، واستسلمت لثقافة التوجس والانغلاق أمام الجديد.
ورغم محاولات تطويرها في السنوات الأخيرة، فإنها لم تستطع حتى الآن أن تستعيد وهجها وريادتها، وبقي مستوى التنوع الفكري ومستوى الحريات متدينا فيها، وأصبحت كما وصفها أحد المنتسبين إليها تقوم "بدور الإقصاء والإبعاد وعدم القبول لكل من لا تتوافق توجهاته مع المدرسة الفكرية الواحدة السائدة أيدلوجيًّا في الجامعة، وقد رأينا أن هذا يرفض بحجة توجهاته التغريبية، وذاك بحجة توجهاته الحداثية، وثالثا لفكره الليبرالي، ورابعا لنقده للمدرسة الفكرية أو للجامعة، وغير ذلك" (ص 68).
لقد مسخت هوية الجامعات المخضرمة بمرور الوقت، وإذا كانت جامعة الملك سعود قد فقدت طبيعتها الريادية والتحديثية، فجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد سارت أيضا بعيدًا عن هويتها. فبعد أن كانت تعرف بطبيعتها الشرعية والعلمية، تحولت إلى "جامعة شاملة تضم كليات في الطب، وعلوم الحاسب، والاقتصاد، والعلوم الإدارية، فأصبحت التخصصات الحديثة تحظى بقبول الطلاب واهتمام المسؤولين، بينما فقدت الكليات العلمية الشرعية بوصلتها وأهميتها ومكانتها داخل الجامعة" (ص 70).
لقد كان منتظرا منها كجامعة متخصصة أن تتطور وفق مسار هويتها، فتقدم فيه قفزات علمية وتجديدية، وتكون قائدة لحركة إصلاح علمية وفقهية في علوم الشريعة. ونفس الأمر ينطبق على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
أما الجامعات الجديدة، التي تتجاوز عشرين جامعة في السعودية، فتبدو كلها نسخة واحدة. فباستثناء جامعة الملك عبد الله (كاوست)، تأسست الجامعات الجديدة على دمج كليات وفروع من جامعات مختلفة في مؤسسة واحدة، ولم تكن مسألة هوية هذه الجامعات واستقلالها مطروحة على طاولة الفكر والنقاش، بل فقط اهتمام وزاري بتصميم المباني والمرافق، وتحديد الكليات والأقسام، فلا فرق يمكن أن يُلحظ بين جامعات حائل والجوف ونجران وغيرها، فاللوائح والأنظمة واحدة، ولا يوجد تنوع حقيقي يعكس تأُثرا بطبيعة المنطقة أو المدينة. مما يدل على أن هذه الجامعات الجديدة لديها مأزق أكبر في مسألة الهوية.
والمركزية كانت عاملا مهما في تأزيم هوية الجامعات واستقلالها، فيذكر الكاتب أن "نظام التعليم العالي في السعودية يؤسس لمركزية سافرة، ورسمية، ومعتمدة. فالعملية التعليمية في الجامعات السعودية ترتبط بسلسلة طويلة من الهرمية الإدارية، تنتهي أصغر قراراتها إلى أعلى موقع قيادي في الدولة" (ص 130)، وقد تحول مجلس التعليم العالي، من مجلس تشريعي إلى تنفيذي يتخذ كافة القرارات الإدارية في الجامعات.
وبالإضافة إلى ذلك، يوجد التوجس التقليدي والرسمي من السماح بإقامة الاتحادات أو الجمعيات الطلابية المنتخبة، كما ابتعدت الجامعات عن الحضور في القضايا الفكرية والثقافية، وواجهت بالإضافة إلى عجزها الداخلي تعقيدات بيروقراطية، وردودًا من قبل التيار المتشدد في البلاد. وتبدّت بيئة الجامعات بيئةً طاردة للأساتذة المنتجين، وغاب عنها في تأسيسها ومراحل نموها، مفهوم الحرية الأكاديمية. ولم تعد الجامعة تمثل للطلاب سوى مكان تلقى فيه الدروس.
حلقة في نقاش مستمر وطويل
تميز هذا الكتاب يكمن في تركيزه على موضوع الهوية، فهي موضوع أساسي وعميق للجامعة والمجتمع. وقد يسأل سائل، لماذا موضوع الهوية مهم للجامعات؟ والحقيقة أنه بلا هوية لن تتمرحل الجامعة في مسار معين، ولن تعرف ما تريد من طلابها والمنتسبين إليها، ولا كيف تتقاطع مع المجتمع، وتؤثر فيه، وتضيف إليه. ولن تتعرف الجامعة هويتها عبر خطة مسبقة فقط، ما لم يكن لها زخم وافر من الأنشطة والمساهمات الفعلية على أرض الواقع، مما يجعل ملامح هويتها تتبدّى أمامها شيئًا فشيئًا.
إن علاقة التعليم مع التنمية، التي ذكر الكاتب أنها من طرف واحد، وبقاء الجامعات على هامش صياغة الوعي بالهوية الوطنية وبمشاكل المجتمع الحيوية، هي حلقات من نقاش طويل يُنتظر منه أن يكون مستمرًّا ومُكاشفًا. ولضعف الهوية لدى الجامعات السعودية جوانب أخرى لم تتم تغطيتها في الكتاب، وتحتاج إلى مزيد من التعمق والمتابعة. فعلى سبيل المثال، إلى أي مدى يؤثر غياب هوية الأستاذ على هوية الجامعة. وما هو الدور الذي لعبه الاقتصاد السياسي للبلد، أو اقتصاد الريع، تجاه تعزيز دور هذه الوظيفة بوصفها وظيفة فقط، وتفريغها من دورها الإنتاجي والإبداعي؟ وإلى أي مدى أثّر غياب التربية والممارسة المدنية في إنتاج كوادر أكاديمية لا تهتم للبعد المدني ولا المشاركة المجتمعية أو الثقافية والسياسية؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى تدارك سريع، لإنتاج عملية إصلاح تعليمي مستمرة وشفافة، تعيد الجامعة إلى طبيعتها الحقيقية، باعتبارها صانعة عقول، وقائدة أوطان.